الأرض والذاكرة:

عن علاء خليل أبو علبة وشتاء الغضب الفلسطيني

ودليله دمه

أحمد علي هلال

وقت لنا، ودم هو وقتنا لنمارس عشقنا، نسرج له هذا المدى وقت لغضب يولد معنا، فلا شيء سوى الروح نحملها، هنا نداؤنا –قيامتنا- لن يبقوا طويلاً فوق أرضنا.. وهل يشهد التاريخ أن للروح يداً ترمي معجزتها على الدنيا، فكم يبدو الموت سهلاً، كم يبدو صغيراً أمام من أهدوا إلينا حياتنا.

<<تقحم لعنت أزيز الرصاص

وجرب من الحظ ما يقسم>>..

عند مفترق وعلى أطراف مدينة حولون جنوب تل أبيب، اخترقت حافلة يقودها السائق الفلسطيني علاء خليل أبو علبة تجمعاً للجنود الصهاينة، وقبل ذلك.. كانت الحافلة قد أنزلت عدداً من العمال الفلسطينيين الذين يذهبون لممارسة أعمالهم يومياً في قلب فلسطين.

ليس مصادفة أن يعود أبو علبة بحافلته وهي فارغة ليقتحم –أثناء عودته- تجمعاً للجنود الصهاينة، عند مفترق آزور، وهو الأعزل سوى من دمه وإرادته.

اقترب بحافلته وجسده، مقتحماً من لا يملكون أرضه، من عاثوا فساداً في الأرض وحاولوا ويحاولون اغتيال ذاكرتها وشعبها، سليلو الخرافة والأكاذيب وفي برهة سريعة، ارتسم المشهد بجلاء، جثث هامدة، وأخرى تتلوى من الألم، لحظات الصدمة الجسورة ملأت فضاءها صرخات، وعويل وبكاء  مر. ولم تستنفد سهام الفينيق الفلسطيني وبقية من خطه المقسوم لقنهم درسه بكنس ظلال <<أسطورتهم>> أراد أن يقلب شاحنة التاريخ ويكسر بلور التوراة، و ينقل رسالة أطفاله الخمسة الذين ينتظرونه في غزة.. وانطلق علاء خليل أبو علبة بحافلته من جديد، مطارداً من جيش الاحتلال الصهيوني وبدأت النيران تنهمر عليه، وأصابه الرصاص فتوقفت حافلته. طوقه الجنود المذعورون دون أن يقتربوا منه أو من حافلته.. كان ينزف وابتسامة ارتسمت على وجهه وهم يمسكون به، ومن ثم ينقلونه إلى مستشفى <<كابلاين>> جنوب مستوطنة تل أبيب.

أما جثث العدو فقد بقيت ملقاة على الطريق، لفترة طويلة، والدماء في كل مكان وأغلقت المنطقة بكاملها.

كان سلاح علاء خليل أبو علبة، دمه الذي تختزنه عروقه وشراينيه، إرادته التي عتقتها سنوات القهر والظلم، ذلك سلاحه الخفي القادر على اجتراح المعجزة، الطليق مع غزاة لا يقرؤون ولا تاريخ لهم في هذه الأرض وغيرها، القادر على الثأر لأرضه وشهدائه، وللأمهات، ولآلاف الجرحى والأسرى الأبطال الذين يرزحون في غياهب السجون الصهيونية. ذلك الأعزل إلا من دمه وعشق وطنه، كان شهيداً حياً، توزع عمره بين استشهاد وشيك وحياة عزيزة، كيف لا، وهو مشروع شهيد على مدى أيامه، الحبلى بالغضب المقدس، لتاريخه الملتهب على مدار القرن، ثورات عارمة وانتفاضات مستمرة، غضبه لذاكرته  الشاهدة على استباحة الأرض والإنسان، الشاهدة على الجريمة بامتياز وجود الصهاينة جسماً غريباً في أرضه العربية.

ومسرح ثأره، ليس في البقعة التي عرفها مفترق آزور، بل هي كل فلسطين المسكون بها، كما بزوجته وأطفاله الخمسة، فلسطين المقطعة الأوصال والتي تطارد طائرات العدو رجالها، وتحصد الأبرياء، وتهدم البيوت الآمنة فوق رؤوس أصحابها، فلسطين التي تغلي مراجلها بسورات الغضب اليومي، حيث يعود شهداؤها مع كل صرخة وليد جديد وابتسامة شمس الصباح.

ما فعله الشهيد الحي علاء خليل أبو علبة هو فعل ثوري كامل في فضاء من التحدي المفتوح والرفض المطلق لأن تدنس كل ذرة تراب فلسطينية وعربية كانت رسالته الواضحة لكل المتهافتين على وليمة الشيطان، بأن ثمة شعباً حياً لا ينال منه الخوف ولا تنكسر إرادته، هو شعب لا تهزمه حواجز التفتيش وذل المعابر ولقمة العيش، شعب اختار فلسطين لأنها مستقبله ومستقبل أجياله.

لقد أراد أبو علبة أن يكتب عمراً إضافياً لأبنائه، فانتزع بطولة جماعية، وهو المفرد، أراد أن يكون ذاكرة للشهداء الذين عادوا معه صباح الأربعاء في الرابع عشر من شباط، لذلك لم يكن أعزل من إيمانه بحقه، ومن ينفض ظل الغزاة عن الجغرافيا فقد أعادها من جديد للتاريخ.

علاء خليل أبو علبة، بطل ومن طراز خاص يبتكر سبيلاً للمقاومة، خارج التوقعات والحسابات الصهيونية، ليجعل من عمره الآخر امتداداً للشهادة والمقاومة والعشق الثوري الخالص، فيما كانت تشتعل خلفه وأمامه كل الأرض الفلسطينية نشيداً ملتهباً لانتفاضة الأقصى وفلسطين، كثف للخطة إيقاعها، لحظة ليست هاربة من التاريخ أو على جغرافية منسية، كامنة في قلب الزمن الفلسطيني، ومن علاء خليل أبو علبة وآلاف المقاومين الذين يدوسون الصمت والخوف، واليأس والتيئيس.. أولئك أقسموا أن تظل ذاكرتهم خضراء أبداً لا ينهزم كبرياؤها، ولا تنكسر يومياتها العنيدة ولا يطوى شتاء غضبها الطويل.

ومن جديد يقرع علاء خليل أبو علبة جدران الخزان، ليذهب صباح الأربعاء بتمام شروقه. ليصبح نهاراً عربياً كاملاً كانت الصورة الأخيرة التي التقطت لعلاء خليل أبو علبة، ابتسامته الواثقة لنجاح عمليته الباسلة.. إنها ابتسامة الفارس، إنها غبطة الشهداء حينما يعودون.

----------------------------------------------