الحلم زمن الحماقة

خيري الذهبي

حين يرى المرء هذا الجنون البربري المنتمي إلى عصور الانسياحات الكبرى حين كانت شعوب بأكملها تخرج من مراعيها التاريخية مهاجمة مراعي ومقامات ومساكن أمم أخرى مستبيحة كل شيء في سبيل هدف العثور على وطن -مرعى جديد، فتقتل وتذبح و تدمر وتبتر وتخرب الأرض وتحرق الغابات وتبيد كل حياة سبقتها لتحل محلها فيما بعد، حين يرى المرء هذا الجنون ولنسمه الحيواني كما فعل أتيلا والهون في أوروبا وكما فعل جنكيز خان في ثلثي العالم الذي فتحه وكما فعل حفيده هولاكو، وكما فعل كورتيز الأسباني في أميركا الوسطى بالحضارات والرمح الطويل تلك الحضارات التي عرفنا فيما بعد أي بعد إبادتها وتدمير بناها الفوقية ثم التحتية وأعني حضارات المايا والأزيتك.

حين يرى المرء كل هذا الجنون المنتمي إلى حضارات ندعي إننا تجاوزناها بالعلم والمعرفة ووسائل الاتصالات الحديثة وشرعة حقوق الإنسان وتجريم جريمة إبادة الجنس وتأثيم جريمة إبادة مصادر الرزق -المراعي والحقول والمعامل، وتفكير تدمير السقوف الساترة لبني الإنسان من قهر الطبيعة، حين يرى المرء الآن ونحن في القرن الحادي والعشرين بعد قتل أو صلب ذلك الفلسطيني الجميل الذي كان يدعى عيسى بن مريم على يد وحوش عاصروه، وكانوا يدعون اليهود.. حين يرى المرء الآن جرائم وقباحات البشر كلها تتكرر مرة واحدة، إبادة الجنس، إبادة المستقبل البشري لجنس ما <<العرب>> عن طريق قتل الأطفال وإعقام الأمهام ببودرة العقم وإعقام آباء المستقبل عن طريق الغازات الممنوعة دولياً، ليس هذا فحسب، بل إخضاعهم كجرذان المخابر إلى تجارب عالمية تجري تحت غطاء <<الطاسة ضايعة>> لاختبار الأسلحة الممنوعة والغازات الممنوعة والتجارب النفسية والاجتماعية الكبرى تجريها القوى الكبرى على هذا الشعب الذي قدر له إلهه أن يعيش على هذه الأرض الوحيدة في العالم التي سميت أرض السلام ولم تعرف السلام لربع قرن واحد عبر تاريخها.

حين يرى المرء كل هذا التدمير والقتل ومحاولات التهجير وأحياناً نجاح محاولات التهجير 1948-1967 الكبرى والصغرى عبر المضايقات والمشاكسات والتجويع والإرهاب المنظم لا بد له أن يتساءل هذه الوحشية والقسوة هل أقول الحيوانية؟ -لا فربما ظلمنا الحيوان في هذا- أهي عنصر أصيل في الذات البشرية كما قال شاعرنا المتنبي مرة: والظلم من شيم النفوس. ولا أمل في تجاوز هذا العنصر، أم أنها مرحلة منحطة من تاريخ الإنسان وسيستطيع تجاوزها مع تقدم الحضارة يوماً.

الحق أقول وأنا أتابع صور أولئك الفتيان من الصهاينة يحملون البندقية ويسددونها إلى طفل أعزل، ثم يطلقون فيسقط العزال ولا يرف للفتى الصهيوني جفن، حين أرى التمزيق والتشويه على جثث الضحايا من أهلنا ولم أر الفاعل ولكني أعرفه بآثاره. حين أرى البيوت المدمرة وحقول الزيتون المجرفة، هذه الجريمة القادمة مباشرة من جريمة يوشع بن نون قبل بضعة آلاف من سنين حين أمر بحرث الحقول وزرعها ملحاً حتى لا تنبت لكنعان من بعد.

أتساءل هل كان لوضع اليهود في مجمدة التاريخ دور في هذا فالشعوب بمعظمها ارتكبت هذه الحماقات والجرائم من قبل، ولكن مسيرة الحضارة والرقي البشري والخوف من التاريخ ولعناته جعلتها تحاول تجاوز تلك المرحلة فاخترعت القوانين والعقوبات المادية والمعنوية تردع الهاربين من طيات التاريخ عن الوقوع ثانية في مثل تلك الجرائم، ولكن اليهود واليهود فقط عبر كتابهم المسمى التوراة والذي لم يكن إلا كتاب لعنات للشعوب الأخرى التي قهرتهم مرة وتمنيات بدمار تلك الشعوب! دمشق متى أرى الحرائق فوق أسوارك، بابل ولعنات الدمار المشتهى لها، مصر إلخ، أتساءل هل كان لهذا الكتاب دور في تحفيز ذاكرة أولئك الناس وجعلهم يعيشون هذا الفصام العجيب، ففي الوقت الذي ينجبون فيه اسبينوز أو فرويد وماركس ها هم ينجبون هذه الخزع المستنسخة من يوشع بن نون ومن أتيلا وجنكيز خان، ها هم ينجبون هذه الكائنات التي ربما لم ينجبها التسلسل الطبيعي للبشر، بل هي خزع استنسخت في واحد من معامل الشر من وحوش ما قبل الحضارة ولما كبرت سموها شارون وموفاز وباراك ونتنياهو.. يا إلهي، أليس من فجر بعد هذا الليل لبني الإنسان.

----------------------------------------