كلمة الثقافة:

صرخة استغاثة <<الآداب>>!

مرة أخرى تطلق مجلة <<الآداب>> اللبنانية المشهورة صرخة استغاثة جديدة تعبر فيها عن الضائقة <<المادية>> التي تأخذ بخناقها، وتناشد أصدقاءها العرب في كل قطر بالمبادرة إلى مساعدتها بكل الوسائل الممكنة!.

لا شك في أن إطلاق هذه الصرخة من جديد مؤشر لا يحتاج إلى توضيح على حضور أزمة ثقافية –بل حضارية!- تكاد تلخص مأساة الثقافة العربية المعاصرة عموماً..

نذكر أنه حين ظهرت <<الآداب>> في بدايات الخمسينات لم يكن معها في الميدان العربي –وليس اللبناني فقط- سوى مجلة <<الأديب>> لألبير أديب وعدد ضئيل جداً من المجلات الأدبية والفكرية التي في مستوى <<الآداب>>.. وهكذا استطاعت تلك المجلة الجديدة أن تنطلق من العاصمة اللبنانية كشهاب ساطع يبشر بعهد ثقافي جديد للإبداع العربي يقوده رجل مؤمن بأمته بقدر ما هو أديب مبدع بدأ اسمه <<سهيل إدريس>> يفرض حضوره الكبير حاملاً معه كل ما يتصوره الوجدان العربي آنذاك من قدرات على العطاء، ومن جاذبية على تحريض المواهب.. ومن هنا استطاعت <<الآداب>> أن تلعب دورها الريادي في ميدان الفكر العربي الجديد بجدارة رائعة طوال عقود من الزمن.. ثم.. تغيرت الأحوال، وسادت الأنظمة الشمولية عالمنا العربي، وظهر <<النفط>> وتدفقت الأموال لشراء الصحف والمجلات وأجهزة الإعلام الأخرى، واشتدت المنافسة، وصار شبه مستحيل على <<الآداب>> أن تحافظ على مكانة الصدارة في سوق المنافسة المستجدة عليها إلا إذا باعت نفسها إلى إحدى الدول الثرية كما كانت تصنع معظم المجلات الأخرى.. ولكن هيهات.. فالآداب ترفض ذلك بالتأكيد انسجاماً مع تاريخها المستقل العريق.. فمن ينقذ السفينة الموشكة على الغرق الآن بعد هذه الصرخة من الاستغاثة؟..

يبدو لنا أن لا أحد قادر على ذلك مع الأسى الشديد فوداعاً أيتها المجلة العزيزة!! إن الزمان لم يعد زمانك واأسفاه!..

المحرر الثقافي

------------------------------------

المفكر العربي السوري د. طيب تيزيني لـ(فتح):

-المشروع النهضوي العربي لن تكتب له الحياة إلا إذا استعاد مفهوم التحرير.

-انتصار الانتفاضة هو انتصار للمشروع النهضوي العربي.. وانتصار للقوى المستنيرة الوطنية والقومية في كل الأقطار العربية.

-النظام العولمي يسحق الهويات الوطنية والقومية لصالح الهويات الماقبلية..

 

أجرى الحوار: عبد الله الحسن، خالد بدير

 

في حوار معه، أكد د. طيب تيزيني المفكر العربي السوري أن الانتفاضة الباسلة في فلسطين شكلت المسوغ الذي تقدم من خلال المشروع العربي النهضوي وهي التي دللت أن هناك إمكانيات ما زالت مفتوحة لتحقيق هذا المشروع، ورأى أن المشروع النهضوي العربي لن تكتب له الحياة إلا إذا استعاد وهجه من منطلق إعادة الاعتبار لبعد التحرير.

وشدد على أن النظام العولمي الإمبريالي الجديد طرح أسئلة حول مصير الهويات الوطنية والقومية والطبقية السياسية لاغياً إياها ومحلاً مكانها هويات ما قبلية.. وفيما يلي تنشر فتح نص الحوار:

 

س1: هل يعتقد د. طيب تيزيني أن الأسئلة التي كانت مطروحة علينا كعرب في القرن الماضي ما تزال راهناً هي ذاتها أم أنها تبدلت؟

ج1: في سبيل الإجابة على هذا السؤال ينبغي التمييز بين مفهومي المشكلة والإشكالية، وهذا التمييز سوف يحدد ويضبط ما نحن الآن بصدده. أظن أن الإشكالية ما زالت هي نفسها.. إشكالية السقوط والصعود.. سقوط المشروع العربي وصعود المشروع الصهيوني، لكن المشكلات تعددت وتعاظمت وتنوعت خصوصاً وأن التحولات التي طرأت على صعيد العالم خصوصاً في العقد الأخير قد خلقت عناصر لم يكن لها حضور سابقاً، ومنها على الخصوص النظام العولمي الجديد الذي أخذ يطرح أسئلة جديدة في مقدمتها أسئلة الهوية التي لم تكن مطروحة في القرن الماضي، بل أكثر من ذلك أن النظام الرأسمالي الاستعماري والإمبريالي، على امتداد القرن التاسع عشر بالنسبة للنظام الاستعماري وعلى امتداد القرن العشرين بالنسبة للنظام الإمبريالي كان يحمل اتجاهاً للتأكيد على الدولة الوطنية باتجاه أن تكون إحدى المحفزات الكبرى لتعميم العلاقات الرأسمالية التابعة للمنظومة الرأسمالية الاستعمارية ثم الإمبريالية ولذلك كان هناك تأكيد على هذه الهويات التي أريد لها أن توظف في خدمة بناء النظام الرأسمالي الاستعماري العالمي.

السؤال الجديد الآن هو أن هذه المسألة، أي مسألة الدولة، يراد لها أن تتفكك مع غيرها من الهويات التي نعتبرها في ضوء علم الاجتماع السياسي الهويات المثمرة تاريخياً مثل الهوية الوطنية والهوية القومية والعقلانية والديمقراطية..الخ، إلا أن الأسئلة الجديدة التي تأخذ صيغة المشكلات تهدد القضية من حيث هي وبالتالي هذه الأسئلة الجديدة رفعت سقف الإشكالية العربية إلى حدها الأقصى، الحد الأقصى يقوم على أن يبقى الوطن الآن، فلم يكن هذا الأمر مطروحاً على هذا النحو.. ومن هنا أقول إن الإشكالية ظلت هي هي.. لكن المشكلات التي تضعها الإشكالية جرى تعديل عميق عليها، وبطبيعة الحال لا أستطيع أن أقول إن الإشكالية ظلت هي نفسها وبالتالي فإن مفاهيمها وأدواتها وأطرافها ستبقى هي ذاتها. ولكن المهم أن يعاد بناء هذه الإشكالات في ضوء الإشكالية القديمة-الجديدة، ولذلك ما يزال يطرح سؤال كبير وهو: هل يستطيع العرب أن ينجزوا مشروعاً نهضوياً؟ نكشف الآن أن هذا السؤال أخذ يحرضنا على التفكير بمقولات أعتقدنا أنها انتهت مثلاً: النهضة العربية، الصراع العربي-الصهيوني-التحرير-التقدم التاريخي منذالعقد الأخير بدأ يظهر تشقق كبير على هذه المقولات، وكأننا نعيش عصراً جديداً يقوم على تغييب ما قبل التاريخ، وعلى إبراز عصر الإمبريالية العولمية والصهيونية.

إذاً الإشكاليات تغيرت مع تغير المشكلات وبقاء الإشكاليات، وبقاء الإشكالية ما كان له إلا أن يفسح المجال لحالات جديدة نستنبطها من تغير المشكلات ذاتها، لنأخذ مفهوم التنمية الاقتصادية في المجتمع العربي، فهذا المفهوم كان له دلالات ووظائف يمكن أن تفضي إلى تنمية شاملة على الصعيد القومي، إلا ما نلاحظه أن هذا المفهوم قد اكتسى وظائف ودلالات جديدة أهمها تلك الدلالة التي يراد لها أن تعني أن التنمية العربية المقصودة يجب أن تلبي احتياجات القرية الكونية الجديدة ومن ثم فإننا الآن على صعيد حقل معرفي فيه الكثير من الجدة، وإن لم يكن قد افتقد حتى الآن ما يجعل منه حقلاً نهضوياً عربياً، أي أنه لم يفقد الإشكالية بل أن هذه الإشكالية تعاظمت الآن مع التحولات التي جاءت فيما بعد تحت مسميات ما بعد الصهيونية، وما بعد الرأسمالية، وما بعد الحداثة، وكل هذه الظاهرات الما بعدية، فالجديد قائم في صلب القديم.. وهذا القديم هو قديم بقدر ما أصبح جديداً.. إذاً الإشكالية نفسها تعيش حالة جديدة من إعادة التبنين وفق التغييرات التي لحقت بعناصرها، وهنا أعني المشكلات ذاتها.

 

س2: في ظل قراءة د. تيزيني للواقع العربي وما يحيق به من مخاطر، ما هي آفاق إقامة المشروع النهضوي العربي؟

ج2: أريد أن أصارح في مسألة معينة، وهي أنني حينما طرحت مشروع النهضة العربية منذ سنين كاد أن ينسحب منه عنصر أراه الآن حاسماً وهو عنصر التحرير، كنت أسمي هذا المشروع <<المشروع العربي في النهضة والتنمية>> ولكن بعد انتصار الجنوب واندلاع الانتفاضة أدركت أن هذا المشروع لن يكتب له الحياة إلا إذا استعاد وهجه الذي تأسس على إعادة بناء فلسطينية وبالتالي فإن مفاهيم التطبيع والتسوية والتقدم التاريخي كل هذا جعلني أستعيد مفهوم التحرير وأطلق على هذا المشروع مصطلح <<المشروع العربي في التحرير والنهوض والتنمية>>.

وإذا كان الأمر على هذا النحو فإنه يحمل إقراراً بأن هذا المشروع لن يحقق أهدافه إلا إذا وضع القضية الفلسطينية مرة أخرى على بساط البحث، وقد استتبع هذا الأمر العودة الثانية لتفحص مفاهيم التسوية، القرية الكونية العالمية، التطور الذاتي الذي لا يستند إلى عملية التقدم التاريخي بل أكثر من ذلك نقول إن هذا المفهوم قد بدأ يكتسب توهجه من خلال إعادة الاعتبار لمفهوم التقدم التاريخي المثمر، وهذا يعني التقدم الذي يؤسس نفسه على الهويات التاريخية مثل الهوية الوطنية والهوية القومية والهوية الطبقية والسياسية وغيرها، إذ أنه معروفاً أن تساقط المنظومة الاشتراكية خلق مرجعية جديدة أمام الجميع الذين يجب أن يولوها أهمية المرجعية الواحدة والحاسمة وهي مرجعية الالتفاف على الوضعية العربية باتجاه تطويعها ضمن النظام العالمي الجديد. وعلى هذا الأساس أعيد ما قاله أحد المفكرين العرب –محمد عابد الجابري- تحت وطأة التصدع الداخلي والعالمي: نحن العرب مدعوون الآن إلى أن نسارع لنكتشف لنا موطئ قدم لنا في إطار هذه الدارة العولمية قبل أن تغلق بحيث أن هذاا لمفكر وصل إلى الاعتقاد بأن القضية قد ألغيت عربياً وبدأت تفصح عن مداخل أخرى ملتئمة في إطار النظام العولمي الجديد، فالمشروع العربي في التحرير والنهضة والتنوير والتنمية لن يكون قادراً على التحرر من خارج مسألة التحرير، وهنا أقول أن بداية سقوط المشروع النهضوي العربي هو بدايات صعود المشروع الصهيوني في بدايات القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر، وهنا نستطيع أن نأخذ مثالين حاسمين في دلالتيهما التاريخية وهما: الأول الذي يقدمه هرتزل وبنرمان رئيس وزراء بريطانيا، أما الثاني فهو المثال الذي يقدمه نجيب عازوري في تلك الفترة والذي كتب كتاب <<يقظة الأمة العربية>> وهو كتاب ربما لم يكتب عنه حتى الآن.

كان بترمان يبحث عن إعادة بناء المنطقة، فهو في تلك الفترة دعا مفكري وعلماء الجامعات الأوروبية والأميركية وطرح عليهم سؤالاً وهو: كيف يمكن إعادة بناء هذه المنطقة –العربية- بما يخدم مصالحنا؟ وأعطاهم فترة سنتين للإجابة، وكانت الإجابة حاسمة، وهي يجب أن ندخل جسماً غريباً في المنطقة ويكون له علاقة وظيفية بالنظام الغربي الجديد، في تلك اللحظة كان نجيب غازوري قد اكتشف قانونية جديدة، وإن كانت بشيء من القصور الاصطلاحي، كان قد اكتشف أن هناك في المنطقة حركتين هما اليهودية الصهيونية والعربية وأن هاتين الحركتين سوف تتعاركان بحيث أن الواحدة لا تستطيع أن تتعايش مع الأخرى ويصل إلى فكرة هامة حيث قال: إن الصراع بين هاتين الحركتين سيحدد في نتيجته مصائر معظم العالم، أريد أن استخلص من هذا كله نقطة جديرة بالاهتمام بالاعتبار المنهجي التاريخي، وهي أن بداية سقوط المشروع العربي هي بداية صعود المشروع الصهيوني.

الآن وبعد انتهاء قرن تقريباً نجد المشهد ذاته يعود إلى العالم ضمن دلالات وسياقات لها خصوصيتها التاريخية، وهذا المشهد يقوم على أن الانتفاضة قد تكون أول خرق في جسد النظام الإمبريالي العالمي الصهيوني الجديد باتجاه العد التنازلي للمشروع الصهيوني، وكذلك باتجاه صعود أولي لإرهاصات أولية للمشروع العربي، المشهد هذا الذي استهلك قرناً من الزمن يؤسس حالة جديدة وهي إمكانية التحدث من جديد عن مشروع عربي تحريري نهضوي والفضل الأعظم في ذلك يعود للانتفاضة.. لذلك المسوغ الذي يقدم هذا المشروع نفسه من خلاله هو الانتفاضة التي دللت على أن هناك إمكانيات لم تغلق، وما زالت مفتوحة لتحقيق هذا المشروع.

ولا شك أن انتصار المقاومة في الجنوب اللبناني كان الإرهاص الأول الذي تبع بحدث أعظم ويجعل منه ظاهرة لها حضورها ليس فلسطينياً أو عربياً ولكن عالمياً، ومن هنا نستطيع أن نقرأ الخطاب الغربي الإمبريالي العولمي والصهيوني الجديد من حيث أنه خطاب يقوم على إلغاء الانتفاضة، والغريب أن هذا الخطاب جاء بصيغة منافقة ويتأسس على فكرة أن هذا الصراع <<المجنون>> في فلسطين والذي يعيشه الأطفال والشيوخ يجب أن ينتهي من أجل أن يعيش الناس بسلام، هذا الخطاب ذو البعد <<الإسرائيلي>> والعالمي الجديد أقرأه بوصفه خطاباً جديداً للفكر السياسي الغربي-الصهيوني أي بمعنى أن هذا النظام لأول مرة في تاريخه يجد نفسه في حالة جديدة تستدعي منه أن يعيد بناء خطابه، كان هناك قبل الانتفاضة خطاب قمعي، بمقتضاه يجب أن يسقط كل شيء، ولكن بعد الانتفاضة جاء خطاب منافق سياسي يقوم على دغدغة عواطف الفلسطينيين الذين يقتلون. لذا فإنني أرى من خلال انتصارا لمقاومة في جنوب لبنان واندلاع الانتفاضة يشكل حالة جديدة، تجعل من قضية البدء بمشروع جديد أمراً أصبح محتملاً، والدارة التي أعتقد الكثيرون أنها أغلقت بخصوص المشروع العربي لم تكن كذلك وأن ذلك غير صحيح، وقد كرس النظام السياسي العربي الخطاب السابق على الانتفاضة الذي يؤكد على أننا لم نعد نملك أكثر مما نملك مما جعله يدعونا، حسب تعبير الجابري، إلى أن نسارع لنكتشف لنا موطئ قدم قبل أن تغلق الدارة، ويصبح هذا الموقف العولمي محشواً بتلك النفايات العالمية وهنا قد نضع يدنا على مسألة ذات رهافة خاصة، بأن النظام العربي السياسي في تأكيده على أن نأخذ ما نستطيع أخذه قبل أي شيء، أنه في هذا يكون قد غيب وأقصى البنية الخفية من الحضور، وهذه البنية هي بنية الأمة وشعوبها التي ما زالت بخير، أي أن النظام السياسي العربي أراد متواطئاً ضمناً أو علناً مع النظام العالمي الغربي أن يعلن أن ما نملك في هذه البنية المعلنة هو أقصى ما نملك، الانتفاضة جاءت لتدلل على أن هناك بنية يمكن الرهان عليها، وأظن أن الشغل على هذه الفكرة يمثل أمراً هاماً لدى الباحثين والأكاديميين والعلماء لأن الانتفاضة استطاعت أن تعيد النظر بما بدا وكأنه أصبح سيد الموقف. إذاً المسوغ الأعظم لعودة المشروع العربي في التحرير والنهوض والتنوير هو في ما تقدمه الانتفاضة وهي دعوة لاستمرار الانتفاضة وفي هذا السياق أعتقد أن الرئيس بشار الأسد قد قال في خطابه أثناء انعقاد القمة العربية ما معناه لماذا تدعون الناس إلى العودة إلى بيوتهم.. هم يريدون أن يقاتلوا ويقتلوا.. أنه أمر ملفت لأنه اكتشف أن الدعوة إلى إيقاف الدماء ما هي إلا دعوة منافقة تهدف إلى إيقاف ما أصبح بداية ليكون الفاعل الأعظم في المجتمع العربي.

 

س3: دعوتم من مجموعة من المفكرين في سوريا إلى إعادة الاعتبار للقرار 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية والذي تم إلغاؤه بضغط من الولايات المتحدة والغرب منذ سنوات عديدة فهل نطل على مبررات هذه الدعوة وإمكانيات إحراز تقدم بخصوصها؟

ج3: لا شك أن هذه الدعوة لإحياء قرار الأمم المتحدة لاعتبار الصهيونية نزعة عنصرية جاءت مواكبة ومتسقة مع الانتفاضة، ومع ما أنتجته من أحوال جديدة في المجتمع العربي، فلذلك فإن انتصار هذه الدعوة مقترن بانتصار الانتفاضة. وهنا أحذر من مخاطر قد نقرأها في الانتفاضة ذاتها ومنها أن يبقى الخطاب السياسي الانتفاضي خطاب الإيديولوجية الدينية، يتحدث باسم الإسلام، لا شك أن الإسلام نستطيع أن نقرأه قراءة وطنية ديمقراطية، ولكن هناك من يسعى إلى محاصرة مثل هذه القراءة ليحاصر الانتفاضة في خطاب ديني لاهوتي من أجل تحويل الانتفاضة إلى انتفاضة إسلامية تواجه عدواً يهودياً. وهذا أحد المخاطر الذي يكمن في بنية الانتفاضة ذاتها، ومن هنا فإن هناك ضرورة في تحويل الموقف اللاهوتي العظيم إلى موقف تحريري بمقولات وطنية  تندرج في إطاره كل الفصائل والأحزاب في الوطن العربي لتكون الانتفاضة.. انتفاضة الأمة لا انتفاضة حزب أو فريق هنا أو هناك. وبهذا المعنى فإن إحدى مسوغات الانتفاضة وانتصارها يكمن في دراسة هذه الظاهرة دراسة نقدية في إطار فكر نقدي وطني يسعى إلى لم الشتات، وليس إلى خلق إشكاليات جديدة. وهناك أمامنا أمران: الأمر الأول هو محاولة تحويل الانتفاضة إلى انتفاضة مجموعة من الناس، وهذا ما رأيناه فعلاً حيث هناك من يقول أن الانتفاضة قامت لأن هناك من قام بها من فريق فلسطيني ديني أو آخر وهذا الخطر الكبير يجب إعادة النظر فيه حتى تكون الانتفاضة انتفاضة الجميع.

أما الأمرالثاني فيأتي من خارج الانتفاضة، تحديدا من موقع الخطاب الصهيوني العولمي الامبريالي الجديد ومن يتضامن معه في إطار النظام السياسي العربي والرد على هذين الخطرين ربما يأخذ صيغتين كبيرتين وهما أولاً التأكيد على ضرورة التطبيع العربي-العربي مقابل التطبيع العربي-الصهيوني دون السؤال عن الخلافات الكبرى والصغرى التي تكمن بين النظم العربية، لذلك فإن حداً ما من التطبيع العربي-العربي يعني في هذه المرحلة التاريخية العربية التمكين للانتفاضة، والتأكيد على أن ليس لها لون إيديولوجي معين.

وثانياً: إنتاج خطاب سياسي عربي يستطيع أن يواجه تلك التحولات التي تطرأ على الخطاب الصهيوني، فهناك، من يتحدث في داخل <<إسرائيل>> أو خارجها عن ما بعد الصهيونية، ويعنون بذلك أن الصهيونية أنجزت مهماتها ووظائفها التاريخية، والآن لم يعد مخيفاً أن تبقى <<إسرائيل>> بعد أن يعاد النظر فيها بالمعنى الوظيفي. أن مواجهة مثل هذه المواقف الجديدة يستدعي القيام بعمل سياسي مكثف بما يعني من احتكام فلسطيني في إطار الوحدة إلى سقف وطني قومي ديمقراطي واحد يثمل أحد الردود الكبرى التي يمكن أن تؤسس لاستمرارية الانتفاضة.

ومن هنا فإن انتصار الانتفاضة هو في الوقت نفسه انتصار للمشروع النهضوي العربي.. انتصار لتلك القوى المستنيرة الوطنية والقومية في كل الأقطار العربية، وهذا من شأنه أن يعني أن مفهوم الانتفاضة يجب أن يوسع ليكون انتفاضة العرب عامة دون أن يحمل هذا الأمر مخاوف لمن يعتقد أن هذه الانتفاضة إذا ما سحبت على أقطار الوطن العربي فإنها ستحمل إشكالات جديدة، إن الموقف يتسم بكثير من الرهافة، وهذه الرهافة تستدعي من الجميع وضع حدود وضبطها والسير بها إلى الأمام.

 

س4: كيف تنظر إلى النظام العولمي، وموقف وموقع العرب فيه؟

ج4: الحديث عن النظام العولمي الجديد، حديث إشكالي فعلاً، لأنه احتمل، وما زال يحتمل القياسات الكثيرة، وقد ظهر هذا في أوساط المثقفين العرب، وفي أوساط عالمية، وتجلى هذا الأمر في صيغة السؤال التالي، الذي قد يشكل قاسماً مشتركاً بين الباحثين والمثقفين.. والسؤال هو: هل نحن ضد العولمة أم معها؟ سؤال ربما يكون فصلاً، أو ربما يكون هو نفسه سؤال ملتبس، لأنه يضعنا أمام خيارين: إما نعم أو لا، وكأننا أمام مسألة لها وجهان، لا يمكن الحسم بها بأخذ واحد منهما، ورفض الآخر، نقول هنا إن النظام العولمي الجديد يقوم على علاقة اتصال وانفصال بالنظام الرأسمالي والإمبريالي، فهو متصل به، وهذا هو الوجه الأول: بمعنى أن هذا النظام العالمي الجديد، يمثل نمواً جديداً في العلاقات الرأسمالية، وتعميقها عالمياً، أي أن القانون الحاسم هو قانون الاستغلال، قانون التفاوت الاجتماعي الطبقي، وتقسيم العالم، ليس فقط طبقياً وإقليمياً وكونياً، وهذا يشكل بالأساس حالة مرتبطة بالنظام الرأسمالي الإمبريالي ذاته، ولكن الجديد –وهنا نقطة التفاصل- ما بين النظام الجديد، والنظام الرأسمالي الأميركي، إن الشيء الجديد يكمن في النظام العولمي الجديد، أنه يصل في استراتيجية الرأسمالية إلى أقصاها، حيث طرح هذا النظام الجديد نفسه بوصفه نظاماً اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، يسعى إلى اقتلاع الطبيعة والبشر، ومن ثم هضمهم، وإخراجهم سلعاً، هذه المقولة الجديدة والتي جاءت مع النظام الجديد من شأنها أن تعني أن النظام القائم لم يعد يقبل بوجود فرقاء آخرين، ولم يعد يقبل بوجود الدولة وبوجود الهويات التي تشكلت في ظل النظام الرأسمالي ذاته من العقلانية إلى الديمقراطية إلى العلمانية إلى التقدم التاريخي، إلى الحداثة.. وبهذا فإنه يسعى إلى تفكيك الجميع وفق آلية الاقتلاع والهضم والتقيؤ، وبهذا المعنى فإن النظام العولمي الجديد دفع العملية إلى أقصاها، حين أفصح عن إيجاد تلك القرية العولمية الجديدة، إن النظام العولمي الجديد، إذاً جديد، وبهذا المعنى التعريفي المنهجي نستطيع أن نضع أيدينا على نقطتين حاسمتين في تحديد الموقف من النظام العولمي الإمبريالي الجديد.

الأولى: اكتشاف أن هذا النظام هو نظام الهيمنة الجديدة، الهيمنة التي لا تسمح بوجود هيمنة أخرى، ولا تسمح بوجود أي عائق في العالم يمكن أن يقف في وجه العولمة، فالهمينة هنا لها أبعاد مختلفة سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية..الخ.

وقد واجهنا ذلك في بواكير هذا النظام حين اندلعت حرب الخليج الثانية، إذ جاءت هذه الحرب لتؤكد أن هذا النظام قادر على أن يفرض نفسه والتجربة التطبيقية الثانية أخرى بعد عشر سنين، تمثلت في تجربة كوسوفو، وهذا يدلل أن النظام أصبح فعلاً عالمياً كونياً لا يقبل إلا بهذه الآلية، ولذلك فهو في هذه النقطة يمثل امتداداً فعلياً للنظام الرأسمالي الإمبريالي انطلاقاً من الهيمنة.

المسألة الثانية: إن هذا النظام أتى، وأتت معه مجموعة من الانتصارات العلمية والتكنولوجية الهائلة التي ما كان تصورها ممكناً، وتمثلت بثورتي المعلوماتية والاتصال.

واستطاع النظام أن ينتج هذه القرية الكونية الجديدة، التي افصحت عن هويتها، التي هي الهوية العولمية الأميركية تحديداً، وإذا عدنا إلى السؤال: نقول نرفض الهيمنة، ونعتبرها امتداداً للهيمنة الإمبريالية، ونأخذ من هذا النظام العولمي كل ما نستطيع أخذه بشرط أن يستجيب ذلك لخصوصيتنا التاريخية، مثلما كنا نرفض الهيمنة الإمبريالية، ونأخذ ما نستطيع من منتجاتها، وفقاً لخصوصيتنا التاريخية، ولكن في ظل العولمة يصبح الأمر أكثر تعقيداً لأن العولمة أصبحت قادرة أن تطال الجميع لأنها تأتي على أنقاض النظام الاشتراكي.

المشكل الآن الذي يواجهنا نحن العرب، هو أن ما تدعو العولمة إلى تفكيكه هو ما ندعو نحن إلى إنتاجه، والمشكلة هنا خطيرة، نحن نسعى إلى إنتاجه، والمشكلة هنا خطيرة، نحن نسعى إلى إنتاج المجتمع الجديد الدولة الوطنية الدستورية، الثقافة العقلانية، العلمانية، والديمقراطية، والحداثة بالمعنى التاريخي، التقدم التاريخي المفتوح، هذا الذي تسعى إلى إنتاجه هو ما تسعى العولمة إلى تفكيكه وإسقاطه، وهذه الحالة فريدة في تاريخ العالم. لذلك حين يعلن البعض عن ضرورة الاستجابة لهذه الدعوة، خصوصاً على صعيد الهويات، فإننا نرى فيها استجابة وظيفية، لما يطرحه النظام العولمي الإمبريالي، وشيء طريف يظهر هنا، وهو يمثل تناقضاً داخلياً في بنية النظام العولمي الإمبريالي الجديد، وهذا الجديد، هو أن هذا النظام المعني الذي يسعى إلى تفكيك الهويات المثمرة تاريخياً في الوطنية والقومية، يسعى إلى إنتاج الهويات الأخرى التي استنفدت تاريخياً، فيسعى إلى إحياء الطائفية، والأثنية، والأقلوية، المذهبية، حتى أنه سيحدث أدياناً جديدة في أوروبا وأميركا وآسيا، لذلك فإن الأمر معقد ومركب.

فالعولمة، باختصار: ظاهرة نشأت بوصفها ظاهرة موضوعية، في سياق التطور المعلوماتي والتكنولوجي والاتصالي الهائل، لذا فهي ليست إيديولوجية، بل واقع تاريخي، موضوعي، وهذه العملية، أتت بعد تفكك المنظومة الاشتراكية، لكنها فاجأتنا بسبب أننا لم نهيأ لها لا سياسياً، ولا اقتصادياً ولا ثقافياً ولا اجتماعياً، وبالتالي نحن نعيش حالة من الاضطراب الهائل، التي تسمح بوجود ظاهرات جديدة، قد تطيح بالموقف كله، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الدعوة إلى الانخراط في العولمة، والدعوة إلى التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، يظهران بوصفهما استجابة للنظام العولمي، وهذا الأمر نفسه يظهر لماذا أوجدت ظاهرة أدونيس الشاعر الذي اعتبر أن الهويات لم يعد لها مسوغ تاريخي، لأننا أصبحنا الآن في فضاء كوني شامل، ولأنه، هو وغيره، يؤمنون بأنه لم يعد صحيحاً أن نتحدث لغة الأموات، ويقولون، كذلك، اصبح معيباً، أن نجعل الأموات يحكمون الأحياء.

لذلك أقول أن مشروعاً جديداً يتصدى لهذه المسألة يبرز وكأنه يمثل مفارقة ساخرة، وفي مثل هذا الحال يتساءل الكثيرون، حين يطرح هذا المشروع العربي للتحرير والنهوض والتنوير، كيف لنا أن نطرح هذا المشروع وقد أصبحنا خارج الدائرة؟

وهنا المقابلة بين أمرين: الأول وهو الحطام العربي الذي نعيشه، والذي أخذت الانتفاضة تخترقه جزئياً، أما الأمرا لثاني فهو هذا الذي يتمثل بتلك الثورة الهائلة، التي اسمها النظام العولمي الإمبريالي الجديد، إذاً كيف لنا أن نطرح هذا المشروع؟ الإشكال سيبقى قائماً، ويفرض نفسه، ولكن كما قلت أن الفضيلة العظمى للانتفاضة أنها استطاعت أن تحدث خدشاً في هذا البناء الهائل، البناء العولمي الإمبريالي-الصهيوني الجديد، وبقدر ما يتعاظم هذا الخدش، ويتحول إلى اختراق نستطيع أن نثق أن الرهان على النهوض العربي محتمل، وهذا الخدش لا يأتي من الانتفاضة فحسب أو من مواقفنا كعرب؟ بل ينتج في البلاد العولمية ذاتها، وأذكر هنا بستاتل وببراغ وبانكوك هذه الاختراقات تقدم أدلة ساطعة على أن النظام العولمي الإمبريالي لم يعد يمتلك مصداقيته التي يقول فيها أنه يمثل العالم برمته، إذاً عملية الاختراق محتملة، ومن يمتلك الوعي التاريخي الوطني والقومي الديمقراطي هو من يكون قادراً على استكمال عملية الاختراق هذه، وبالتالي فالانتفاضة ستنتصر إذا ما انتصر الاختراق العالمي أيضاً.

 

س5: مع بروز ظاهرة العولمة، طالعنا بعض المتغربين الأميركان بمقولات من قبيل <<نهاية التاريخ>> و<<صدام الحضارات>> والسؤال: هل لهذه المقولات مصداقية معرفية، ثم ما هي مسوغاتها الإيديولوجية؟

ج5: نحن نواجه إشكالات إيديولوجية نظرية تنتج في الفرب العولمي، وتجد لها أحياناً صدى في العالم العربي، وأريد هنا أن أتحدث عن أمر يتمثل في ما أسميه جدلية الداخل والخارج، الجدلية التي كنا نتحدث عنها قبل عقد أو أكثر، ونعني بها أن الخارج، لكي يحدث تأثيره في أمر ما لا بد أن يتكلم بلغته، أي أن يدخل في نسيجه، ويمتطي صهوته، لكن مع نشوء النظام العولمي الإمبريالي، لم تعد هذه المقولة كافية في صيغتها السابقة لفهم ما يحدث من عملية اختراق في الداخل العربي من موقع الخارج الغربي، أقول هنا أن هذا الخارج لم يعد مدعواً لنتظر ركوب موجة الداخل العربي في نفس طويل، كما كان يحدث في عصر الاستعمار، حيث كان الاستعمار يرسل بعوثه من المستشرقين والباحثين والكتاب والعلماء، كي يهيئوا له لكن هنا العملية تتم من حيث يبدأ الفعل، والفعل الأعظم يتحقق على يد الثورة المعلوماتية والاتصالية التي اخترقت العالم كله، وهذا يقتضي بالضرورة تعميق النظر في جدلية الداخل والخارج، ومن هذا الموقع أقول إن النظريات والإيديولوجيات التي تدخل العالم العربي من الغرب تمارس دوراً كبيراً وفاعلاً وسريعاً، فنظرية <<نهاية التاريخ>> أتت متوافقة مع الحدث ذاته، فلم يكن هناك ضرورة لتعميم هذه الفكرة عبر أجيال من الباحثين والعلماء الإيديولوجيين، إنما الأمر دخل حيث تم إنتاج هذه الإيديولوجيا، واعتقد كثير من الناس أن الأمر انتهى، والتاريخ انتهى؟ إلى هذه الحقبة الأخيرة التي بشر بها فوكوياما وغيره، ولكن انطلاقاً من أن التاريخ لا يمكن أن يغلق لأنه بالأساس لا يوجد بنية منغلقة بإطلاق، فهذه الإيديولوجيا أخذت تعيش حالة من الاختراق من داخل الغرب نفسه وأتت بنتيجة كبيرة، تقوم على أن نهاية التاريخ لا توجد بالأساس وإنما هناك نهايات يدافع عنها إيديولوجياً، على الصعيد المعرفي هذا المصطلح زائف معرفياً، وأخلص إلى القول إن نظرية <<نهاية التاريخ>> تساقطت معرفياً وأن صاحبها تنكر لها بطريقة أو بأخرى، حتى أنهم أخذوا يبحثون عن نقاط أخرى، وأعتقد أن النقطة المرسخة الآن تكون الأكثر لمعاناً في العالم كله هي نقطة <<ما بعد الحداثة>> التي يشار فيها إلى أن كل ما تشكل في التاريخ تحت اسم الأنماط الأساسية كالعقلانية والديمقراطية والحداثة، لم يعد يحقق أغراضه، فهذه الأغراض استنفدت ومن ثم نحن نعيش حالة من الفوضى الكلية العالمية والطريف هنا أن مجموعة من منتجي النظام الثقافي العربي، يلتقطون هذه الأفكار الإيديولوجية، ليعيدوا إنتاجها عربياً، خصوصاً حينما يعلنون أن رهان العرب مقترن بالضرورة، بالبنية المعيوشة التي نواجهها الآن في حياتنا، ويتابعون قائلين أن هذه البنية محبطة، مخفقة، انتهت إلى أفق مسدود، ومن ثم فإن نهاية التاريخ قاعة، وهنا نجد حالة من الاغتراب، بمعنى آخر فإن فوكوياما لم ينته طالما أن الإخفاق قائم فإن فوكوياما سيبقى قائماً، ولكن هنا نحن أمام الانتفاضة التي بدأت تخترق الخطاب الإيديولوجي، بخطاب سياسي وطني وقومي، وهكذا نضع يدنا على مركبة ما تزال في مرحلة التمخض والتكون، وبقدر ما تنتج أسلحة جديدة نظرياً وسياسياً، فإننا نستطيع أن نحقق حالة أولية من التماسك السياسي القومي والوطني.

إن ما قاله فوكوياما، جاء من يتممه، وأعني هنتغتون صاحب <<صراع الحضارات>> وهنا ألفت النظر إلى مسالة قلما جرى الانتباه إليها، وهي أنه هنتغتون عندما طرح <<صراح الحضارات>> بديلاً عن قضايا الصراع التاريخي العالمي فإنه مرر فكرة دقيقة، وهي تلك التي طبقت لأول مرة في المجتمع العربي على يد السادات الذي حينها قال: إن المشكلة بيننا وبين الكيان الصهيوني هي في الحاجز النفسي، أي مشكلة تتصل بالنبية الثقافية السيكولوجية، فإذا ما هدمنا الحاجز تنتهي الإشكالية، هنتغتون الآن يقدم أدلة إيديولوجية يراد لها أن تمكن هذه المقولة الساداتية، حيث يركز القول أن صراعاتنا الحقيقية هي في معظمها صراعات سيكولوجية، وهي بالتالي ليست ذات بعد تاريخي، وإنما ذات بعد قد يكون منشأ الالتباس التاريخي، فمثلاً نحن في صراعنا حسب هنتغتون مع الكيان الصهيوني لا نواجه صراعاً تاريخياً، يقوم على مشكلات تؤسس على وطن وهوية، وإنما صراعات أثيرت بسبب غموض وقصور معرفي وسيكولوجي، نفسي، نشأ بين الشعوب، والآن وبعد أن ذاب الثلج وظهر المرج، يجب أن نضع يدينا على الجرح، ونزيل تلك الالتباسات النفسية-الثقافية، ونمهد لحالة جديدة.. من الإنسان الكلي، والشيء الطريف أن أولئك يستخدمون ماركس حين يقولون إننا الآن أمام نمط جديد لتحقيق الماركسية، وذلك عن طريق الإنسان الكلي، والعالم الكلي الذي يتلغي من الصراعات وربما تبقى فيه التباسات، وهذه الالتباسات حتى وإن بقيت فإنها ليست خطيرة إلى درجة أنها تصدع العالم، هنتغتون إذاً يمثل الوجه الآخر لفوكوياما، ففكوياما يؤسس للنهاية، وهنتغتون يؤسس لعملية الاختراق على كل حال فكلاهما، عملا، ويعملان على إدخال هذه الإيديولوجية المركبة إلى المجتمعات ما قبل الرأسمالية، ليجعل من هذه المجتمعات هامشية، فغيرت بها.

إن هنتغتون، وفوكوياما، أسسا لمركزية جديدة، وهي المركزية الأوروبية-الأميركية العولمية التي تعني أن مركز العالم يتمثل بهذه الهيمنة الأوروبية الأميركية العولمية، في حين أن حواشي وهوامش هذه المركزية، تتمثل بكل الشعوب التي يعيش وفق ما يمليه عليها هذا المركز، وإذا استخدمت هنا تعبير لـ<<سمير أمين>> أقول إن هذه المركزية الجديدة، نقلت المشلكة القديمة إلى صيغة جديدة هي أكثر خطورة لأنها نقلت الرأسمالية من رأسمالية ليبرالية إلى رأسمالية بربرية، تريد أن تبتلع كل شيء، وحتى يصح أن أقول هنا كلمة تتمثل بالمرأة، لأنها تشكل مفصلاً في إطار القضايا المعقدة المركبة في المجتمع العربي كما في العالم. إن المرأة التي استطاعت بقدر ما أن تحقق حالة من التحرر على امتداد القرن التاسع عشر والعشرين، يراد لها الآن وفق آليات النظام العولمي الإمبريالي الجديد أن تقصى ثانية إلى جسدها بعد أن تنتزع منها هويتها الاجتماعية والتي حققت الكثير منها في انتصاراتها الاقتصادية والسياسية والطبقية والثقافية، هذه المرأة الآن تناط بها وظيفتان، الأولى تتمثل في أن تتحول إلى سوق للسلعة، أي للسوق العولمية الكونية، أما الثانية فتتمثل في أن تتحول هي نفسها للسلعة، مسوقة للسلعة، ومسوقة  لذاتها، فالنظام العولمي الجديد يسعى هنا إلى ابتلاع روح المرأة، وبالتالي روح الرجل، بحيث أن الرهانات التاريخية تصبح فعلاً مقلقة، حينما تستطيع هذه السوق الكونية السلعية الانتصار تكون قد قضت على الإمكانات التي تهيء لها الرهانات المحتملة والمفتوحة تاريخياً.

---------------------------------------

من أدب المقاومة:

ممدوح عزام

فليكن دمه الفاتحة

يرتقي الشعر في أزمنة الحرب والثورة، يحاول أن يقدم نفسه على الورق حين يجد البشر يقدمون أرواحهم على الأرض، يستجيب الشعر لذلك الدافع الإنساني المسكون بهاجس الرغبة في تخليد المكان والزمان وا للحظات الحاسمة، وسواء كانت تلك الاستجابة موسومة بالمناسبات أم نابعة من الإيمان العميق الراسخ المرتبط ارتباطاً وثيقاً ووجودياً بالمقاومة والعزة وكرامة الروح، فإنها تحاول أن تجد ذلك الرباط الوثيق بين الكلمة والدماء، تصوغ الدماء التاريخ الإنساني، وتبقيه حياً، يتنفس، ويعيش، فيما تؤبد الكلمات ذلك التاريخ نفسه وترشحه للبقاء. وهذا ما شهدته فلسطين، في تاريخها المعاصر الحي، والمدمى حيث سار الشعر العربي جنباً إلى جنب مع مصيرها يقف، يتعثر، يكبو، يرتقي يسمو إلى الأعالي ولكنه في كل الأحوال يحاول وينشد لها معبراً عن علاقته الحميمة والأبدية، وإليكم شيئاً من ذلك: يقول الشاعر مازن شديد:

عاشت فلسطين

فلسطين سيدتي ستعيش

لأن البنات النبيات وكل الرفاق

يصيرون مهر فلسطين

يصيرون أقمارها

ويقول عبد الله منصور:

تبحرين كنجمة صيف متعبة في الفلك المحتوم

وزمانك هذا الحزن الممتد على وجهي أتوسده الليلة

والليلة وجع من سر مكتوم

ينمو في أعصاب الفرسان العشاق نضالاً يصلبهم فوق جدار القدر الملغوم

هذا تاريخ الحب الدموي وهذا تاريخ زفاف مهموم

ولكن أي زفاف هو هذا؟ وإلى من تزف البلاد؟ يجيب الشاعر:

فالمهر جماجم أطفال نسفوا قبل ولادتهم

والزغرودة خاتم عرس مسموم

لكن الشاعر الذي سيقدم بعد ذلك صوراً دموية وقاتمة عن مصير البلاد لن ينسى أنه كان دائماً، أو أن البلاد كانت دائماً تقدم وجهها الآخر الوجه المقاوم لنقرأ:

قتل على قمة جبل الكرمل يوم ولدت أبي

فاخضرت أشجار الزيتون

وصارت كل عيون الأطفال خنادق

واستشهد غرب النهر قبيل طلوع الفجر أخي

فتحول عطر حبيبته المنفية أحزاناً وبنادق

وأنا انتظر الموت

ولكن هذا الموت -شبه المحتوم- هو:

وموتي صار وثيقة حقي في وطني

وجميع رفاقي يوم يموتون وثائق

وفي السياق ذاته، حول المصير نفسه يقول مازن شديد مخاطباً دلال المغربي:

دلال

قومي انفضي عنك موتك!

قومي افتحي باب بيتك

قومي افرحي

فإن الضيوف يجيئون من كل بيت ودرب

يجيئون من كل أرض وصوب..

فهذا البنفسج واللوز

هذي البلابل

هذي السنابل

هذي الغمار

دلال

قومي انفضي عنك موتك

قومي افتحي باب بيتك

قومي افرحي

فإن العصافير لا تعرف الانتظار

أما الشاعر يوسف عبد العزيز فيقول:

أيها الواقفون على جسدي

اسمعوا ما أقول إنني في الخليل

جبل لا يغادر أو ينحني

إنني في رفح

طفلة تحمل الصاعقة

وأنا في أريحا

أنا نخلة لا تصلي

والآن لنقرأ الشاعر محمد الظاهر في قصيدة اغتيال وفيها حوار عميق مع الرموز التي صنعت التاريخ المعاصر لفلسطين في كفاحها من أجل البقاء، والتحرر عبر تلك السلسلة التي لا تنتهي من استشهاد أبنائها:

فضحته الرصاصة فانهار كالفرس الجامحة

كان موت الرصاصة

في الجسد الحي

فرصتها السانحة

للنقيض دم

دمه لا نقيض له

فاقتفوا سره

في اشتعال الزمن

واطلبوا جذره

في تراب الوطن

لا تزعجوا الموت باللغة النائحة!

فضحته الرصاصة فانهار

واشتعل الجسد الغض بالرائحة

هذه الأرض.. والنبض.. شقان تسعى إليه ويسعى إليها

فللجسد الإنشطار.. وللأرض صفقتها الرائجة

فضحته الرصاصة/ لا توقظوه من الحلم/ لا تشعلوا باسمه اللائحة

وابدأوا من دم.. يستوي وطناً

باعثاً في العيون الرؤى الجارحة

إنه يبدأ الآن رحلته

فليكن دمه الفاتحة

--------------------------------------------------

الملتقى الثقافي الفلسطيني في مخيم جرمانا.يستضيف .د.سهيل زكار

انتصاراً لانتفاضة الأقصى المباركة وتحت شعار "استمرار الانتفاضة يعني تاريخا عربيا جديد أمام الملتقى الثقافي الفلسطيني في مخيم جرمانا بتاريخ  1/3/2001ندوه فكريه بعنوان "ملاحم من تاريخ القدس العربية " للأستاذ الدكتور: سهيل زكار، وقد حضر الندوة حشد من الفعاليات الثقافية والجماهيرية في المخيم وممثلي تحالف القوى الفلسطينية في المخيم .حيث قدم الدكتور زكار عرضا مستفيضا عن تاريخ القدس على مر العصور مستندا بذلك إلى المصادر التاريخية والوثائقية ونوه إلى أهمية الاهتمام بميدان التأليف للقدس اعتمادا على المكتشفات الأثرية والكتابات التاريخية والوثائقية قائلاً علينا أن ندفن إلى غير رجعه ما يسمى العهد القديم وعلينا أن نتعامل فقط مع الوثيقة التاريخية .وقد تحدث الدكتور زكار عن تاريخ القدس كجز من تاريخ بلاد الشام ومصر وبلاد الرافدين  موردا مصادر تلك الحقبة ثم بعد ذلك الحقبة الفارسية الاخمينيه وهي الأخطر ثم ما يسمى بالعصور الكلاسيكية "الإغريقية والرومانية والبيزنطية وبدء مرحله جديده مع نهاية الحكم البيزنطي ودخول أمير المؤمنين  عمر بن الخطاب سنة 17/ للهجرة إلى القدس… كما تحدث عن أهمية العصر النبوي الذي تمثل بعملية الإسراء التي أراد الله أن يعلمنا من خلالها درسا بأن الإسراء من المسجد الأقصى إلى السماء يعني أن طريق السماء يمر من القدس إلى مكة فالمدينة وأن من يفرط بالقدس يفرط بمكة والمدينة… كما تحدث الدكتور زكار عن العصور اللاحقة من العصر الأموي إلى العصر العباسي ثم العثماني والحديث ….وفي ختام محاضرته أكد الدكتور  زكار على ضرورة التمسك بالقدس وكل  أرض عربية بكل ما نستطيع من قوه وإمكانات والعمل بكل الوسائل على تحريرها وإعادتها إلى السيادة العربية وعلينا أن لا نلقي السلاح لأننا أصحاب حق .

 

و.. د. محمد الحبش

وكان الملتقى قد استضاف الدكتور محمد الحبش مدير مركز الدراسات الإسلامية في دمشق الذي تحدث عن الإسلام ومستقبل القدس "بحضور حشد جماهيري وقد أكد "د" حبش في بداية محاضريه أن أرض فلسطين سميت بالأرض المقدسة وسميت البلاد التي تحيط بها بالأرض المباركة مشددا على أن هذه التسمية تعكس ما أراده الله عز وجل من إحياء دلالات الأقصى في ضمير العالم الإسلامي والعربي ونوه إلى أن الظلم الذي يحيط بالأرض المقدس ليس أول ظلم يطرأ عليها في التاريخ فهذه الأرض ومنذ فجر الإسلام محط أطماع الطامعين واستعرض الغزوات التي تعرضت لها مدينة القدس ثم تحدث عن النزيف الذي يحاول الصهاينة تسويقه حول حائط البرق الذي أسموه بحائط المبكى مؤكدا أن هذا الحائط لا يمت بصلة إلى اليهود حيث دلت أعمال الحفر والتنقيب أن لا أثر لهم فيه. وفي ختام المحاضرة استعرض "د" الحبش  المنظمات الصهيونية التي تتآمر على القدس محاولة تهويدها .وفي نهاية المحاضرة أجاب المحاضر عن أسئلة واستفسارات الحضور.

------------------------------------------

 

كل البنادق للقدس

كل البنادق للقدس

كل البيادق للقدس

كل المحاور والمنابر والمعابر للقدس

طلّوا على ساحاتها يحيوا عرس

طلوا على مسجد عمر

طلوا على الصخرة الحزينة، التاكلة دقو جرس

كل البنادق للقدس

كل المعابد للصلا

باذانها الغم انجلا

وفيها تباشير انجلا

قرآنها ، وانجيلها  وتوحيدها  كانوا القبس

بظل مقلاع وحجر

عالمعتدي يشكل خطر

مارد خرج من قمقمو تحدي القدر

وقلب الأسد من قبلهم  جرد عليها واندمر

مهما عشت عين البشر

حق العرب ما بينطمس

كل البنادق للقدس

غصبن علىشارونها وباراكها وأفاكها روس الرجس

تاريخنا فيها انغمس

كل البنادق للقدس

ولقبة الصخرة الحزينة

ولقمة الليل الطوبلة الباكية

وحس الضمير  العالمي اللي تبلد وانتكس

بسيوفكم  بصدوركم باطفالكم  باحجاركم دقوا الجرس

كل البنادق للقدس

بتنطلها مرجل غضب

بتنطلها ثورة شعب

عم الوطن أوراها

تحرق باراك نبارها

مهما تغطرس وارتكب

مهما قتل مهما سحل مهما ضرب

صاروخ او قاذف لهب

بتظل غاصب

وبتظلها  درعو لعب

ومهما الكبار تخاذلوا

وتقاعسوا وتواكلوا

جاره غصن كل ن سكن إبدوا إلو

 بالخمر والقد الحلو

بتظل فيها الانتفاضة الرائدة

وبتظل الضفة الجريحة الصابرة

الربان والشط الحقيقي للعرب

للخلد رامينا طفل

وكل من سقط فارس بطل

رام حجر مؤمن على ربو اتكل

عاش القضية وشاف كل فصولها

ومن تجربة لبنان وعيان المثل

مابترجع الارض بحكي

ولا لعدوك تشتكي

       

كل البنادق للقدس

كل البنادق للقدس كل البنادق للقدس

والطفل ما برضع حليب إنما بكي

خمسين عام بطولها

بفنونها وفصولها

كانت نفاق وكولكي

وكانت حصيلتها قبور مشابكي

غطت أراضي بلادنا سهل وجبل

لكن بعد ما حطم الشعب الصنم

المارد خرج وتساقط كل القمم

والغاصب الممثل من جوّا انهزم

شدوا الهمم- شدوا الهمم

بالدم عمدنا القسم

عن كامل التحرير ما نقبل بدل

عن كامل التحرير ما بنقبل بدل

أما القسم

باللد بالرملة وصفد

بقبور ما الها عدد

في بطنها الدرة اتحد

بنزانها وزيتونها

برحمانها وحطينها

بقسامها

بغزة وبعدما جف دم  جبينها

غزة العروس الملحمة مضرب مثل

عن كامل التحرير ما بنقبل بدل

عن كامل التحرير ما بنقبل بدل

لكل يافع بالعرب نبت وصي

لاهل المراتب  والكراسي والصبي

بقيادة جيوش العروبة الغازية

لازال  يحدونا الامل

رصوا الصفوف ووجهوا

كل البنادق للقدس

                              حمد المصفي-جبل العرب

-----------------------------------