اليهود المارانو

خيري الذهبي

في إسبانيا والتي وجد الفاتحون المسلمون فيها عام 711 ميلادية أعداداً من اليهود الذين كانوا قد هاجروا إليها منذ العهد الروماني لكن ضغط الكاثوليكية القوطية عليهم جعلهم يتخفون ويخفون يهوديتهم، ولكنهم ما إن سمعوا بقدوم أبناء إسماعيل (المسلمين) حتى عاد إلى أجسادهم المتماوتة الحياة والدم فقاموا بثورة على القوط في طليطلة واستولوا على حصن المدينة وفتحوا أبوابها للمسلمين، وحاول المسلمون الاستفادة من اليهود، فكانوا بعد فتح المدن الإسبانية يوطنون اليهود فيها لحراستها حتى يتفرغ المسلمون للفتح، وقد كان هذا ضرورياً نظراً لقلة عدد الفاتحين المسلمين، وقد وطن المسلمون اليهود في قرطبة وغرناطة وطليطلة واشبيلية، والمضحك أن المسيحيين الأسبان حين قادوا حرب الاسترداد بعد ثمانمئة عام قام اليهود بالدور نفسه ولكن لصالح المسيحيين هذه المرة ضد المسلمين، فوطنهم المسيحيون في المدن المفتوحة وطردوا المسلمين منها.

لكن شهر العسل المسيحي اليهودي لم يطل على عكس شهر العسل المسلم اليهودي والذي سمح لليهود بالتفتح وإنشاء الثقافة وكتابة الشعر ونشوء الفلسفة إلى آخر ما يمكن تسميته بالعصر الذهبي اليهودي منذ سقوط أورشليم على يد الرومان.

شهر العسل المسيحي اليهودي سرعان ما بترته وبقوة محاكم التفتيش الإسبانية ذات السمعة السيئة والرهيبة ضد المسلمين واليهود وحتى لا يفقد اليهود مكانتهم العالية كمرابين ورجال مصارف وأصحاب شركات تأمين فقد قاموا بإظهار المسيحية وإبطان اليهودية وهم اليهود المتظاهرون بالمسيحية والذين سيعرفون في التاريخ اليهودي والأوروبي باسم المارانو ويقابلهم لدى المسلمين يهود الدونمة وهم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية.

هؤلاء المارانو والذين أبطنوا اليهودية لم يكونوا ليتخلوا عن الفرص الاقتصادية التي أحرزوها في شبه جزيرة ايبيريا من أجل المظهر اليهودي ولذا، فقد تخلوا عن المظهر لإرضاء الكهنة التفتيشيين المتعصبين وحافظوا على مواقعهم الاقتصادية المهمة جداً في إسبانيا والبرتغال، وآثروا ذلك على الهجرة إلى بلد إسلامي أو بروتستانتي لا يعطيهم الفرصة الاقتصادية نفسها، والغريب أنهم المارانو ظلوا على علاقات أسرية واقتصادية جيدة مع اليهود الذين احتفظوا بيهوديتهم وهاجروا إلى دول جديدة كهولندا وانكلترا والدولة العثمانية، وكان الحكم الإسباني والبرتغالي يستفيد من خبراتهم الاقتصادية وصلاتهم الدولية عبر الشبكة اليهودية العالمية. وهناك حالات عديدة قام فيها المارانو بالتجسس لصالح الإسبان والبرتغال عبر أقربائهم اليهود الصريحين في هولندا وانكلترا والبلقان العثماني، وكان اليهود الصريحون الهولنديون والإنكليز حين يقدمون إلى ايبريا يعتنقون المسيحية لفترة إقامتهم أو لنقل يتواطأون مع الأجهزة الإسبانية في التظاهر بالمسيحية ثم لعب المارانو دوراً مهماً في تأسيس الشركات التجارية والاستيطانية الكبرى <<ولنتذكر جيداً هذا الدور لأنهم سيمارسونه بعد قرنين أو ثلاثة في فلسطين بعد خروجها من القالب الجصي العثماني الذي خنقها كما خنق العالم الإسلامي لعدة قرون>> فساهم المارانو مساهمة فعالة في إنشاء شركة الهند الشرقية وشركة الهند الغربية الهولندية، ثم ساهموا في إنشاء شركات منافسة أسسها البرتغاليون لإخراج الهولنديين من البرازيل، وكان الرابح دائماً هم اليهود المارانو.

ثم ساهم المارانو بما لديهم من خبرة مالية في تأسيس شركات تأمين وعدد كبير من المصارف وكان لهم شهرة طيبة في التعامل في أسواق البورصة المالية، وأسسوا مصانع للصابون والأدوية، وساهموا في إنشاء مصانع للسلاح كانوا يبيعونه لطرفي القتال كل على حدة، وكان الرابح دائماً هم اليهود المارانو.

وحينما انتقلوا إلى العالم الجديد وإلى المستعمرات البرتغالية في أفريقيا كان لهم الدور الكبير في تجارة العبيد معيدين الاعتبار إلى دورهم التاريخي في تجارة العبيد والرقيق الأبيض (السلاف) ما بين روسيا الوثنية وبيزنطة والدولة العباسية. ومما ساعدهم على تبوؤ هذا الدور المالي والتأثيري عاملان أساسيان أولهما أن المارانو في توزعهم وعدم رغبتهم في القيام بدور سياسي ظاهر <<الوصول إلى الحكم>> واحتفاظهم بالروابط فيما بينهم يهوداً صريحين ومارانو واستخدامهم لغتهم الخاصة والعصية على غيرهم وهي اللادينو، وهي لغة خليط ما بين العبرية والعربية الأندلسية والإسبانية فكونوا أول شبكة تجارية عالمية، وأول نظام ائتماني في العصر الحديث <<بنوك الاعتماد>> هذه الشبكة التي كانت تربط بين العالمين الإسلامي والمسيحي بشقيه المتحاربين الكاثوليكي والبروتستاني.

أما من الناحية العقيدية، فقد كان للمارانو الذي نشأ آباؤهم في ظل الحضارة الإسلامية وعاشوا هم في كنف محاكم التفتيش الإسبانية فخففوا كثيراً في سلوكهم ومعتقدهم من التزمت اليهودي الذي عرفه اليهود الخاضعون للسلطة الحاخامية وساهموا كثيراً في نشر الفكر القابالي الذي يجعل اليهود عماد الخلاص في العالم والتي ربطت بين التصوف والنزعة الشيحانية والتي تعوض اليهودي عن عدم مشاركته في السلطة السياسية بجعله شريكاً مع الرب في خلق العالم، بل وفي تحقيق الرب لذاته ووجوده.

بعد كل ما تقدم عرضه عن اليهود المتخفين في المسيحية والذين سموهم بالمارانو هل يبدو عجيباً أن نرى البابا البولوني يغفر لليهود صلب المسيح وتعذيبه وأذاه، هل يبدو عجيباً من البابا في الفاتيكان أن يقول حين يشير لليهود: إنهم أشقاؤنا الكبار والذين عرفوا الله قبل أن نعرفه.

------------------------------------------------