21 آب إحراق المسجد الأقصى المبارك

فلسطين الذاهبة لتارخيها الجديد

أحمد علي هلال

كخلود الحق.. والدم الذي شف هناك على الجدران،ونما بين الصخور نهراً من أغاني الشمس ونشيداً للحياة، إنها القدس، من أطعمت التاريخ خبزحريتها، وألقمت البرق سرها..والفاتحون يمرون ليمكثوا طويلاً في الذاكرة،وتبقى هي حاضراً ومستقبلاً،تخبئ دمعها فتبعثه سوراً من غضب معتق،تخبئ جراحها لتنبعث للسهول والحقول خضرتها الدائمة، هي الباقية لتحرس روح هذه الأرض التي بنى سرحها البهي شهود شهداء، ورثوا قميص النهار، فها هو إسراؤه المنتظر يصدق الوعد، بأن تثور الأرض على غزاتها، ليخرجوا بالمشيئة المساوية-الأرضية،كما جاؤوا عراة، وينهض شعبها الماجد، في مدى مازال من أزل الحجر،ينسج سره ويتسع كلما لفظ التراب،ظل الخرافة.

إنها القدس.إنها فلسطين..ذاكرة الوجود المكتوبة،بحروف أولئك الشهداء بأسماء أهلها، المشدودين لجذورهم،تسعتيد مفراداتها من مجاز الحكايات تقاوم،فيولد جيل جديد، وما زالت تقاوم بأجيالها.. تورق من دمائهم،يورقون من دمها..حقيقة شامخة فوق ذكريات الموت، وأسرها القديم الجديد..

إنها السر.. لا كلمته فحسب،يتداوله التاريخ منذ ستة آلاف عام..باق،ما بقيت مساجدها وكنائسها،ما بقي إنسانها حارساً لسرها الموصول بين الأرض والسماء، أرض بورك حولها، وتاريخ تظل أزمنته الآتية حديث الخلود.. لم تكن المحاولة الصهيونية لإقامة الهيكل الثالث المزعوم على أنقاض الأقصى المبارك،إلا تتويجاً لسلسلة طويلة من الاعتدءات والمحاولات الحثيثة لتدنيس المقدسات في القدس، إن قضية مدينة القدس،بما لها من أهمية فائقة في الصراع العربي - الصهيوني،جعلت قلب فلسطين نابضاً بحقائق حضارية وثقافية ودينية، في مواجهة مخططات التهويد ومشاريع الاستيطان المتعلقة بالبلدة القديمة من القدس، ومشروع القدس الكبرى القديم-الجديد،بيد أن أهم المرتكزات الصهيونية التي تكثفت في خطابات ساسة الصهاينة ومنظّريها وآبائها الروحيين، وعبر مراحل الصراع هو احتلال القدس وجعلها عاصمة(لدولتهم المنتظرة)!

من خلال موجات الهجرة اليهودية،وجعل الاستيطان حقيقة ناجزة،في القدس نفسها، بغية فرض وتأسيس وجود يهودي على أرض فلسطين،بإعادة اليهود إلى فلسطين ومن ثم عمليات التهويد أرضاً وسكاناً كمرحلة تلي تأسيس ذلك الوجود.

وقد عبر بن غوريون عن النيات الصهيونية تجاه القدس،أثناء النقاش الصاخب في الكنيست فيما بعد يوم 24 حزيران عام 1948 حين قال:" إن مسألة القدس في الأساس،ليست مسألة ترتيبات،ولا حتى مسألة سياسة، إنما هل ستكون لدينا القوة العسكرية من أجل، احتلال المدينة القديمة، واحتلال ممر واسع بما فيه الكفاية من تل أبيب إلى القدس، بحيث يربط القدس ببقية أراضي (الدولة اليهودية)،تدمير الجيش العربي الأردني في المثلث، ودون هذه الأمور الثلاثة لا يمكن القول أن القدس قد حررت وهذه الأمور(يجب ألا تتم داخل القدس فقط) بل خارجها بشكل أساسي،ولكنها المرحلة الأولى لاحتلال القدس تعقبها بعد ذلك مراحل عدة تتعلق بالجانب الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي".

وخلف تلك المرتكزات تقف ذرائع شتى،مؤداها أن طقوس العبادات والصلوات تتركز كلها في فلسطين،وأنها لا تتم إلا في ما يسمى(بالهيكل المقدس) وهكذا بدئ بالحفريات حول المسجد الأقصى وتحته لتتصدع جدرانه وينهار بناؤه،وبوشر بهدم وإزالة جميع المباني الإسلامية من معاهد ومساجد وزوايا وأسواق ومساكن ومقابر قائمة فوق منطقة الحفريات والملاصقة لحائط البراق,.

ومع بدء الاحتلال الصهيوني لأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 ،نشط المستوطنون بتأسيس منظمات إرهابية،بمساعدة الجيش الصهيوني،فتم الاستيطان في الضفة الغربية، وعملوا على تخريب الحرم القدسي الشريف لإزالته، ترفد ذلك أيديولوجية صهيونية عنصرية جدستها عصابات واصلت نشاطها بعد عام 1948 رسخت جهدها على تخريب الأقصى وإحراقه وتدنيس حرمته، بوسائل مختلفة كان مهادها تعليم ورؤى ومقولات القادة الصهاينة الأوائل، والتي سارت على نحو منسجم قولاً وعملاً بالإنطلاق من فلسفة الإرهاب التي راحت تقول:" عن العالم لا يشفق على المذبوحين،ولكنه يحترم المقاتلين"وأنه يجب" إهلاك جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ،حتى البقر والغنم والحمير، بحد السيف وإحراق المدينة وجميع ما فيها بالنار".

ويقول هرتزل:" سنكون نحن جزءاً من السور الأوروبي المرفوع في وجه آسيا، سنكون في الصفوف الأولى من الجبهة، حماة المدينة وخفرائها من البربرية".

إن التجسيد العملي لنزعة الإرهاب المتأصلة راح يأخذ صوره من خلال تدمير البلدات والقرى والمدن والمدارس والمصانع،وعمليات النسف والتفجير والمذابح، وتدنيس الأماكن المقدسة في القدس والخليل ويافا، بل شتى المحاولات لاقتحام الحرم القدسي الشريف من أجل إقامة"كنيس يهودي" ونزع الأسماء العربية التاريخية والدينية،وإعطاء تلك الأماكن أمساء عبرية زائفة..

لكن أقذر تلك الأعمال الصهيونية بحق المسجد الأقصى، الحريق المدبر في 21/8/1969 بهدف تدمير المسجد الأقصى وإزالته من الوجود، مما يفسح المجال أمام الصهاينة، إقامة معبدهم المزعوم، وحقيقة الأمر، أن سائحاً يهودياً استرالياً يدعى مايكل دنيس روهان، قام بإشعال النار في المسجد الأقصى، مما أسفر عن تدمير أجزاء عديدة من المسجد، كمنبر السلطان صلاح الدين الأيوبي، ومنبر السطان نور الدين الشهيد، وتدمير السطح الشرقي الجنوبي للمسجد/ وقامت سلطات الاحتلال بقطع المياه عن منطقة الحريق وعرقلة وصول سيارات الإطفاء.

وعقدت للصهيوني يوهان محاكمة صورية وأطلق سراحه باعتباره مجنوناً! وما أراده ذلك الصهيوني،ربيب مدرسة الفرادة في القتل والإرهاب،تغيير طابع مدينة القدس العربي،ونسف ذاكرتها العربية توطئة لأرض موعودة لشذاذ  الآفاق،بل إضرام النيران في نسيجها الروحي والحضاري الراسخ بآثاره الشاهدة على الوجود العربي، والذي لا تقوى خرافة مهما تسلحت بحق القوة أن تجتثه من التاريخ الأصيل،ومن الذاكرة قلب الحقيقة..

جاء ذلك الاعتداء ،ضمن سياق بعيد قريب من تعديات طليقة على المقدسات في القدس،على مدى سنوات الاحتلال الصهيوني لها منذ عام 1967،بالرغم من استنكارات عديدة من جهات وهيئات دولية مسؤولة عن حماية الاثار والمقدسات،وجهت لحكومة الكيان الصهيو ني،مطالبة غياها بوقف إعتداءاتها المتكررة على الاثار والمقدسات في مدينة القدس،وذهبت نصوص القرارات لتؤكد ان أي تدمير أوتدنيس للماكن المقدسة أو المباني ، أو المواقع الدينية في القدس، وإن أي تشجيع أو تواطؤ للقيام بعمل كهذا يمكن أن يهدد (الأمن والسلام) الدوليين، القرار رقم 252،267، -عام1968،1969.

إلا أن الصهاينة تجاهلوا تلك القرارات، وواصلوا حرباًمفتوحة ضد المعالم الحضارية في المدينة، تمشياً مع خطة الحكومة والكنيست الصهيونيين، بجعل مدينة القدس (يهودية وعاصمة أبدية)، بل ان حاخام الجيش الصهيوني شلوموغورين قد اقترح عام 1967هدم الأقصى وقبة الصخرة المشرفة من اجل إستئناف ما يسمى بالوجود اليهودي تحتها! فضلاًعن تصريح لوزير الإسكان الصهيوني زئيف شيف في 15/2/1971 قال فيه <<نهدف إلى جعل القدس مدينة يهودية>>.

لقد تضافرت جهود عربية لإزالة آثار عدوان 1967 في تشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي الذي اجتمع في المغرب، في 22-25 أيلول 1969 لدراسة إمكانية حماية المقدسات الإسلامية في القدس الشريف، وجاء في إعلانه الشهير: إن حكومات وشعوب ورؤساء الدول والحكومات والممثلين المشاركين في الاجتماع، مصممة على رفض أي حل للقضية الفلسطينية لا يكفل لمدينة القدس وضعها السابق لأحداث حزيران 1967(..) وأن يأخذ بعين الاعتبار تمسك المسلمين القوي بمدينة القدس والعمل على تحريرها.. واليوم تكثف القدس، صورة الصراع العربي-الصهيوني في تجلياته ومظاهره من مخططات التهويد والاستيطان وارتكاب المجازر بحق المصلين المسلمين كما حدث عام 1990 مجزرة الأقصى.. وغيرها.

بيد أن حقائق الدم، وبراهين الحق تزلزل كل يوم مرتكزات الحلم الصهيوني الزنيم، والتي تترجمها انتفاضة مجيدة في مطلع ألفية الفداء والمقاومة، ستظل هي الجرس الذي يقرع، لتفتح بوابات الحرية القادمة..

وينداح حق القوة، بقوة الحق، ولا تتوسل العدل أحبار زائفة، إنما هو الدم الذي يتقدم قانوناً يستمر بحضورنا في المشهد التاريخي والحضاري الجديد.