صيدا استولت بريطانيا على جزيرة قبرص في العام 1878 بدا الأمر ليهود بريطانيا من الأثرياء السفارديم المرعوبين من موجات اليهود الأشكناز المهاجرين من أوربا الشرقية محملين بالفقر وبالأفكار الثورية في وقت واحد، بدا الأمر وكأن الحل للمشكلة اليهودية – اليهودية قد جاءهم على طبق من فضة، فنشرت جريدة الجويس كرونيكل مقالاً تبرز فيه المزايا التي تتمتع بها جزيرة أفروديت وتجعلها مكاناً مثالياً ملائماً لتوطين اليهود المهاجرين من أوربا الشرقية، مكاناً هوجنة للقادمين من صقيع الشمال والحالمين بشمس طالما حدثتهم عنها التوراة في سير الآباء، وجنة محمية بالحماية البريطانية، فلا تلزمهم ببناء دولة ولا بإقامة جيش يكون من نتائجه الحتمية قتل النفس اليهودية المحرم تماماً حسب الحسيديين من اليهود ولا يرجعون إلى فلسطين المحرم على اليهود الهجرة إليها قبل قدوم المسيح المخلص، ويكون بمرمى حجر من فلسطين حالما يأتي المسيح .
لقيت دعوة الهجرة إلى قبرص قبولاً لدى الداعية الصهيوني دايفد ترييتش، فسمى إلى عرض الفكرة على المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 ثم في المؤتمر الثاني عام 1898 وتحمس هرتزل للفكرة في البدء، ولكنه لحذر تقليدي فيه نصحه بالتريث إلى أن تحين الفرصة المواتية للبدء في الخطوات العملية، وأشار بعرض الفكرة على جمعية الاستعمار اليهودي التي لم تتحمس للمشروع، ولكن ذلك لم يثن ترييتس عن مسعاه فطرح
الفكرة ثانية على المؤتمر الصهيوني الثالث 1899 فقوبل بالرفض الشديد منطلقين من أن الانشغال بتوطين اليهود في قبرص سيعرقل مشاريع الاستيطان الصهيوني في فلسطين و الذي يلح عليه الصهاينة متجاهلين الرفض اليهودي للاستيطان في فلسطين قبل مجيء المسيح .
لم ييأس ترييتش ولجأ إلى جهوده الشخصية لإنجاح مشروعه، فسافر إلى قبرص، ودرس الموضوع هناك، وقدم مذكرة للمندوب السامي البريطاني عن الموضوع، وفي العام \1900\ نجح بالتعاون مع جمعية "الاستعمار اليهودي" و" صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار" (دعونا نتذكر منذ متى وكل شئ لديهم منظم ) نجح ترييتش في تهجيره \250\ يهودياً من الروس والرومانيين إلى قبرص، لكنهم لم يظل بهم المقام هناك فسرعان ما انتشر التذمر بين صفوفهم نظراً لغياب التجانس بينهم وإحساسهم بأنهم أصبحوا عبيداً في ظل نظام السخرة الذي فرضه ترييتش عليهم دون أدنى اعتبار لادميتهم أوتقاليدهم الدينية والثقافية .
ستستمر المحاولات في استعمار قبرص على يد هرتزل وعلى يد تشامبرلين ولكن فكرة فلسطين ستظل أكثر إغراء للعوام والجماهير من اليهود وكانت اللعنة (أعني قيام الكيان الصهيوني في فلسطين ) التي نعيش كابوسها حتى الآن وربما لعقود كثيرة منذ الان .
ما ذكرني بموضوع استيطان اليهود في قبرص وفشل المشروع برمته رواية الدوس هكسلي التنبئة أواليوتوبيا السوداء والتي سماها ( عالم جديد شجاع ) والتي يجعل فيها الجنس منفصلاً عن التناسل والإخصاب فالتناسل والإخصاب في الدولة المهيمنة القادمة سيكون من مهام الدولة فالتجدد البشري – الولادة يكون في المعمل حيث ينقسم القادمون الجدد المواليد إلى أنواع أ، ب، جـ، د، هـ، فالصنف أ هوصنف المفكرين والقياديين والمصلحين والخلاقين والصنف هـ والذي ماصار هـ إلا لأنهم قللوا من كمية الأوكسجين الواردة إلى الدم في مرحلته الجنينية فتحول إلى ما يشبه العبد يعمل ولا يفكر
فالتفكير من مهمة الصنف أ، طبعاً الأصناف الأخرى تقوم بالمهام الموكلة إليها والمتراوحة مابين الصنف أ والصنف هـ، وحين يسأل أحد الطارئين على هذا المجتمع الريادي العجيب : ولم لاتخرج المعامل أجنة الغد كلها من الصنف أ فتكون قد قدمت قفزة كبرى لمسيرة البشرية التي سيصبح أفرادها كلهم أنصاف آلية .
هنا يضحك المشرف العام ويحدثه عن تجربة حاولوا فيها هذه المحاولة منذ قرون وذلك حين اختاروا اثنين وعشرين ألفاً من الفئة أ ووضعوها في جزيرة قبرص بعد إخلائها من سكانها الأصليين ( لنلاحظ مسألة الترانسفير المغروسة في الفكر الغربي هذه وأعطوهم الأغذية والآليات، وقالوا لهم : أقيموا جنتكم، جنة أنصاف الآلهة من المنتقين والمصطفين والمختارين في قبرص .
يقول المشرف لسان حال الراوي إن هذه الفئة المختارة حققت كل تنبؤات صانعيها، فالأرض لم تفلح كما يجب والمصانع أهملت وعمت الإضرابات، وعصيت الأوامر، وانتشرت الدسائس، ثم بدأت الحرب الأهلية فيما بينهم ليتفانوا حتى لم يسبق منهم بعد ست سنوات ترى هل كان في لا وعي العقل الأوربي بشكل عام هذا المخطط، هولاء الناس اليهود الذين ينظرون إلى أنفسهم على أنهم الشعب المختار والذين يعتقدون بأنهم لأنهم يهود فهم متميزون .
دعونا نعطهم أرضاً نخليها من الناس ولنترك المختارين يشقون طريقهم، ولكنهم ولأنهم لا يمكن أن يكونوا فلاحين وعتالين وسقاءين، فكلهم تاريخياً تشكلوا ليكونوا بورجوازيين، ولذا فسيقتلون فيما بينهم في التنازع على أن يكونوا من الفئة أ فليس فيهم من يعترف بأنه من الفئة هـ وهكذا نتخلص منهم بأيديهم ……… هل تتحقق النبوءة ونرى الحرب الأهلية بين شعب الله المختار من اليهود .
خيري الذهبي