بقلم جواد الحمد*
مثلت القدس منذ تأسيسها عام 3000 ق.م محوراً أساسياً من محاور الصراع الحضاري في المنطقة، وقد تداولت السيطرة عليها ثماني أمم خاضت صراعات وحروبا ضد بعضها البعض. ورغم أن حكم وسيطرة اليهود على المدينة في عهدي داود وسليمان عليهما السلام لم يمثل أكثر من 1,6% من تاريخها المديد (5000 عام)، فإن الفتح الإسلامي -الأول دينياً بالإسراء والمعراج والثاني سياسياً على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه والثالث بتحريرها من الاحتلال الصليبي في القرن الثاني عشر الميلادي على يد صلاح الدين الأيوبي- يحسم الصفة الحضارية للقدس بعروبتها وإسلامها، حيث سادت حضارة الإسلام فيها كل حضارات الأمم الأخرى.
” استمر الحكم العربي الإسلامي في القدس ما يقارب 70% من تاريخها، أي من الفترة ما بين 3000 ق.م و1917 وهي سنة الاحتـلال البريطاني
”
|
وعند دراسة تاريخ القدس الزمني يتبين أن الحكم العربي الإسلامي في القدس مثل حوالي 70,9% من الفترة ما بين 3000 ق.م و1917 أي إلى فترة الاحتلال البريطاني، في حين كان الوجود العربي متواصلاً لم ينقطع ولم يرتبط بطبيعة نظام الحكم. وكان للروم حكم فترتين في القدس مثلتا حوالي 15,4% من عمر القدس، كما مثَل حكم الفرس لفترتين كذلك 6% من عمرها، واليونان لفترة واحدة 6% أيضاً.
ويشير الباحث البريطاني كيث وايتلام إلى "أن ما يحدث الآن من قبل الصهاينة هو إبراز مملكة إسرائيل الصغيرة الخاطفة في التاريخ كما لو كانت مملكة إسرائيلية عظمى، برغم أنها لم تكن إلا لحظة عابرة في مسيرة التاريخ الحضاري لفلسطين القديمة" (1). ويقدم الإسرائيليون في برامج السياحة تاريخ القدس بعمر 3000 عام فقط كتاريخ يهودي، متناسين الـ 2000 عام التي سبقت قيام مملكة داود عليه السلام والتي وجد فيها العرب منذ عام 3000 ق.م.(2)
ويشار إلى أن الحكم العربي كان هو المبتدأ حين بناها اليبوسيون المنحدرون من الكنعانيين العرب عام 3000 ق.م، وكان المنتهى حين احتلتها القوات البريطانية عام 1917. ولذلك تعد المدينة عربية إسلامية خالصة ولا يعد حكم اليهود فيها إلا عابراً بمقاييس التاريخ والزمان، وهو ما يبطل دعوى اليهود بالأحقية بها على باقي الأمم، وهم الأقل وجوداً وحضوراً وحكماً لها على مدار التاريخ.
تهجير اليهود إلى القدس في ظل تفاقم المشاكل التي تعرض لها اليهود بأوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وفي ظل الضيق الحضاري الأوروبي بالجنس اليهودي، اتجهت الأنظار إثر إنشاء الحركة الصهيونية إلى إقامة وطن لليهود في فلسطين لتحقيق هوية خاصة مستقلة لهم من جهة، وتخليص أوروبا من مشكلتهم من جهة أخرى، وليكونوا جسراً للاستعمار الأوروبي والتدخل الأوروبي في المنطقة من جهة ثالثة. ولعبت شعارات الدين التي رفعتها الحركة الصهيونية دوراً مهماً في ترويج فكرتها بما في ذلك التوجه اليهودي نحو القدس والعمل على إعادة بناء هيكل سليمان فيها مكان المسجد الأقصى.
ومع قيام الدولة اليهودية عام 1948 على أرض فلسطين واغتصابها لأجزاء كبيرة من مدينة القدس (84,1 % من مساحتها آنذاك) إلى جانب أراض فلسطينية أخرى، وإعلان الدولة العبرية القدس عاصمة لها، دخلت القدس مرحلة جديدة من الصراع الديني والسياسي على حد سواء بين العرب والمسلمين من جهة، والكيان الإسرائيلي وحلفائه الغربيين من جهة أخرى. وشكلت حرب يونيو/ حزيران 1967 نقطة تحول كبرى في هذا الصراع بعدما استولت إسرائيل على البلدة القديمة واحتلت الحرم القدسي الشريف.
بهذا التحول استكملت مكونات الصراع حلقاتها، حيث تصاعدت حدة البعد الديني في هذا الصراع، وأصبح تحرير القدس المحتلة مطلب المسلمين الأساسي وسعيهم الحثيث بوصفها قبلتهم الأولى وحرمهم الثالث وموئل الإسراء والمعراج الخاص بهم، وأنها أرضهم التاريخية كأمة عربية إسلامية. وأخذ الصراع يتمحور في مظهرين أساسيين: الأول تزايد بناء المستوطنات اليهودية في الجزء الشرقي من القدس مع مزيد من مصادرة الأراضي العربية فيها، والثاني تزايد أعداد المهجرين اليهود إليها وتراجع نسبة الوجود العربي.(3)
القدس محور الصراع الأهم في ظل هذه التحولات الأساسية اعتبرت القدس محور الصراع ورمزيته ومكونه الحضاري والديني والسياسي. ورغم استمرار العدوان اليهودي على الأماكن المقدسة وعلى الأرض والسكان في القدس وسعيه المستمر منذ الأسبوع الأول لاحتلال القطاع الشرقي منها (البلدة القديمة) عام 1967 لتهويدها ومحو معالم الحضارة العربية الإسلامية فيها، فإن النضال العربي الإسلامي السياسي والمقاوم استمر لتحريرها، وتوحدت مواقف الأمة العربية والإسلامية على ذلك، بل لقد تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي أساساً للقيام بهذا الدور إثر إحراق المسجد الأقصى من قبل اليهود في 21/8/1969.
ولذلك فقد أصبحت القدس -والحرم الشريف فيها على وجه التحديد- قاعدة الصراع العربي الصهيوني وأساسه لاعتبارات دينية وسياسية وتاريخية في آن واحد، وهو ما جعل عمق الحق الفلسطيني فيها يمتد إلى العمق الاستراتيجي العربي والإسلامي كاملاً. وعلى الجانب الآخر تزايد التمسك اليهودي بالقدس كاملة موحدة كعاصمة أبدية لإسرائيل بوصفها المكان "المقدس" لليهود في العالم، بل بوصفها مهجة قلب الشعب اليهودي على حد تعبير مؤسس إسرائيل بن غوريون.
تغير عمراني وديمغرافي
لكن الحقائق على الأرض تشير إلى نجاح التهويد العمراني والديمغرافي، مما يشكل خطراً على الوجود العربي فيها، حيث تشير الإحصاءات والدراسات إلى أن ما بقي من القدس الشرقية خارج دائرة التهويد يصل إلى 21% فقط، في حين تم الاستيلاء على حائط المسجد الأقصى الجنوبي الغربي (حائط البراق) بطول 47 متراً وارتفاع 17 متراً ليكون مكاناً يصلي فيه اليهود حسب طقوسهم الدينية المزعومة وليطلق عليه زوراً "حائط المبكى".
كما تم تعديل التركيبة السكانية للمدينة لتصل إلى حد المساواة بين العرب واليهود فيها (200 : 170 ألف نسمة)، ناهيك عن تغيير المعالم والهدم والطرد المستمر للسكان العرب في محاولة لإضعاف الموقف العربي الإسلامي إزاءها. من جهة أخرى يحاول اليهود حصر حق المسلمين فيها بالحرم الشريف وحق المسيحيين بكنيسة القيامة، ولذلك اتجهت الحلول الإسرائيلية المقترحة لمستقبل المدينة لتقديم الحل الديني أو الوظيفي الإثني مع استبعاد الحل السياسي إلا في جانبه الرمزي فقط، وذلك حتى تبقى السيادة والأمن إسرائيليين في المدينة.
أهمية القضية وفشل اتفاقات السلام حولها
ولم تتمكن اتفاقات السلام العربية الإسرائيلية التي وقعت منذ عام 1979 وحتى اليوم من معالجة المسألة بعدل، غير أنها وفرت لليهود الفرصة الزمنية الكافية لفرض الأمر الواقع التهويدي جغرافياً وسياسياً وسكانياً.
” لم تتمكن اتفاقات السلام العربية الإسرائيلية التي وقعت منذ عام 1979 وحتى اليوم من معالجة الصراع على القدس، غير أنها وفرت لليهود الفرصة الزمنية الكافية لفرض الأمر الواقع التهويدي جغرافياً وسياسياً وسكانياً
”
|
إن قضية القدس تكاد تختصر قضية فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي، وقد كان بيت المقدس على الدوام الشرارة التي تشعل المواجهة بين الطرفين، حيث تتمثل المعركة بمختلف مكوناتها في القدس: مصادرة الأرض، بناء المستوطنات، جلب اليهود وتوطينهم فيها، محاصرة المناطق الفلسطينية، طرد الفلسطينيين منها، وانتهاك حرمة الأماكن المقدسة والاعتداء عليها(4)، خاصة وأن بيت المقدس يعد الذاكرة الحية للمسلمين ويحتل مكانة خاصة لديهم، وهو جزء من أرض الشام المباركة وهي أرض مقدسة، وفيها المسجد الأقصى الذي تشد إليه الرحال، وهي أرض الإسراء والمعراج الذي ربط مكة بالأقصى والقدس، فعروبتها من عروبة مكة وقدسيتها من قدسية مكة.(5)
ولذلك فإن أي طرح سياسي لإنهاء الصراع يستبعد عودة القدس لأصحابها العرب كاملة لا يتوقع له أن يحظى بالاستقرار والاستمرار، وستبقى القدس شرارة الصراع الأكثر سخونة كما أكدت انتفاضة الأقصى في سبتمبر/ أيلول 2000.
أولاً: أسباب الصراع التاريخي حول مدينة القدس ومظاهره
احتدم الصراع حول مدينة القدس منذ القدم لأسباب متعددة دينية وسياسية وتاريخية وإثنية، وقد ابتدأت أولى مراحل الصراع عندما دخل يوشع بن نون إلى فلسطين يقود أتباع موسى واستمر صراعهم مع اليبوسيين والكنعانيين 140 عاما إلى أن تمكن النبي داود من السيطرة عليها وإقامة مملكته فيها عام 1049 ق.م، واستمرت مملكة داود وابنه سليمان قرابة السبعين عاماً.(6)
وشهدت مدينة القدس أعمال التخريب والدمارعلى أيدي سرجون ملك آشور ونبوخذ نصر ملك بابل الذي أسر عشرات الآلاف وهدم أسوار القدس, وبطليموس اليوناني الذي هدم القدس ودمر أسوارها وأسر مائة ألف من اليهود فيها، وكذلك فعل أنطوخيوس الذي قتل ثمانين ألف يهودي في ثلاثة أيام(7)، والقائد بومبي الروماني، وكذلك فعل الصليبيون عندما احتلوها عام 1099. غير أن الفتح الإسلامي كان حفاظا على الناس والأعراض والأموال والكنائس والمعابد والممتلكات، كما كان عدلاً يساوي بين الناس ولا يقابل الإساءة بمثلها، ولا يحمل الشعوب وزر قادتها وطغاتها.
وبذلك يمكن ملاحظة أهمية البعد الديني والإثني في الصراع حول المدينة والذي ساد أثناء مرحلتي الصراع الأخيرتين بشكل حاسم، وهما مرحلة الصراع الصليبي الإسلامي (1099 - 1187) ومرحلة الصراع بين الحلف الاستعماري الصهيوني والأمة العربية الإسلامية (1949 - حتى الآن).
وبعد نجاح المسلمين في إفشال الحملات الصليبية المتتالية على فلسطين، غدت القدس رمزاً لجهادهم من أجل استعادة الأرض والحقوق، فكان من أهم مسؤوليات الكيانات السياسية المتتابعة المحافظة على القدس عربية إسلامية والعمل على تعزيز هويتها وتراثها الإسلامي.(8)
وقد شهد عهد صلاح الدين روحاً جهادية تنبعث في الأمة لدرجة سيطر معها التأليف عن الجهاد على كتّاب العصر وشعرائه، وقوام ذلك التحريض على تطهير القدس وفك أسرها وحماية قدسيتها. وقد نامت عيون الأمة خمسين سنة قبل أن يتحرك الشرق العربي لمواجهة ذلك الاحتلال الإفرنجي لبيت المقدس، وفجأة وبدون مقدمات انتفضت الأمة وأزهرت روح الجهاد.
” سياسات حزبي العمل والليكود تحمل نفس الأهداف، وتعمل مع بقية الأطراف اليهودية لإبقاء القدس موحدة وعاصمة لإسرائيل، ويعمل حزب العمل بالذات بهدوء شديد لتهويد القدس الشرقية ونشر الوجود اليهودي في محيطها
”
|
وأخذت أحاديث الجهاد تكثر يوماً بعد يوم، ومكانة القدس تنمو وتكبر جيلاً بعد جيل حتى بلغت الغاية في عهد الدولتين النورية والصلاحية، حيث قيض الله القائدين نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، فكانت الإرادة وكانت معارك الكرامة فازداد الأمل في تحرير بيت المقدس وإنقاذ المسجد الأقصى.(9)
يعتبر الفلسطينيون البلدة القديمة هي قلب مدينة القدس المحتلة، وهي ليست مجرد قطعة أرض من الأراضي العربية المحتلة عام 1967، لكنها تعبير حي عن الميراث الثقافي العربي في المدينة، وتعتبر مركز النضال الوطني بخصوص القدس.(10)
وتتمتع القدس برمزية دينية خاصة عند المسلمين والمسيحيين، كما استغلت الحركة الصهيونية هذه الرمزية لجمع اليهود فكرياً وربطهم بالأرض والمقدسات المزعومة في محاولة للبحث عن عمق حضاري في التاريخ وتقديمه بصورة حديثة.(11)
القدس في ظل الاستعمار البريطاني
بعد مجيء الاحتلال البريطاني لفلسطين خلفاً للحكم العثماني عام 1917، شرعت سلطات الانتداب البريطاني في تطبيق وعد بلفور الخاص بإقامة دولة لليهود في فلسطين، فسهلت عمليات الاستيطان اليهودي، كما ساهمت في إنشاء المؤسسات الثقافية والدينية اليهودية في المدينة، وفي شراء الأراضي العربية وغيرها في منطقة القدس ومحيطها وعلى الأخص غربي البلدة القديمة. واتجهت كذلك إلى تقسيم الأرض بين العرب واليهود والذي تبلور بقرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947، غير أن القدس مثلت عملياً العقدة الأساسية أمام هذا القرار، ولذلك اتخذ التعامل معها طابع المعالجة الخارجية عبر فكرة تدويلها كمنطقة قائمة بذاتها (Corpus Separaturm) تمكنت إسرائيل من احتلال الجزء الأكبر منها في حرب 1948، مما أفشل فكرة التدويل عملياً.(12)
برنامج التهويد الصهيوني لمدينة القدس
عند ترسيم حدود بلدية القدس في العهد البريطاني ارتبط ذلك بطبيعة الوجود اليهودي، فامتد غرب البلدة القديمة 7 كم وشرقها وجنوبها مئات الأمتار فقط. ثم أعيد رسمها عام 1921 وعام 1946 وبتركيز على القسم الغربي كذلك لتصبح 40% أملاكا إسلامية و26,12% أملاكا يهودية و13,86% أملاكا مسيحية. وفي ضوء حرب عام 1948 وبعد توقيع اتفاق الهدنة في 22/7/1948 تم تقسيمها إلى غربية وشرقية، حيث حكم الأردن المنطقة الشرقية بنسبة 11,5%، واحتلت إسرائيل المنطقة الغربية بنسبة 84,1%، واقتطعت 4,4% منها كمنطقة حرام تتبع الأمم المتحدة.(13)
ومما يجدر ذكره أن مختلف المصادر تؤكد أن توجهات ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية بخصوص القدس تكونت من ثلاثة أجزاء:
- تدويل مدينة القدس.
- بناء الهيكل الثالث في مكان غير بعيد عن المسجد الأقصى.
- أن تكون المدينة خارج الأسوار (محيط البلدة القديمة) بطابع أوروبي غربي وأن تصبح عاصمة الشعب اليهودي.
وقد تبنى بن غوريون مؤسس إسرائيل هذا التوجه ونفذه، حيث سعى لإنشاء ما سمي بالقدس الغربية وأطلق على البلدة القديمة ومحيطها اسم القدس الشرقية. وقد حدد موقفه هذا في رسالة للحكومة البريطانية قبيل صدور قرار التقسيم عام 1947 قائلاً إنه لن يتنازل عن القدس وإنه لابد من الفصل بين الأماكن المقدسة في شرقي المدينة وغربها. ودعا إلى رقابة إنجليزية على شرقي المدينة، وطالب باعتبار اليهود من سكان القدس مواطنين في الدولة اليهودية.(14)
وبعد احتلال القوات الصهيونية لـ 84,1% من المدينة عام 1948 قامت بتدمير القرى المجاورة (مثل دير ياسين وعين كارم وغيرهما) وضم أراضيها إلى ما أسمته بالقدس الغربية حيث أعلنتها عاصمة لها.
وعلى إثر عدوان يونيو/ حزيران 1967 تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من احتلال الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية (البلدة القديمة) ومحيطها، حيث شرعت في تهويد المدينة وفرض وجودها فيها، واتخذ ذلك أربعة أشكال أساسية:
الأول- هدمت الحي الإسلامي المعروف بحارة الشرف في حي المغاربة عقب الاحتلال مباشرة في 11 يونيو/ حزيران 1967، حيث منحت السكان ساعتين فقط لمغادرة المكان. وصبيحة اليوم التالي كان الحي قد سوي بالأرض حيث تم ضم أرضه إلى الساحة المقابلة لحائط البراق التي يطلق عليها ساحة المبكى. وتم أثناء ذلك هدم مسجدي البراق والأفضلي وهدم 135 منزلاً وتهجير 650 فلسطينيا، علماً بأن ممتلكات الحي كانت ملكاً للأوقاف الإسلامية.
الثاني- توطين اليهود في حي المغاربة وتسميته بالحي اليهودي واستملاك الممتلكات الإسلامية والوقف الإسلامي ما بين هذا الحي وحارة الأرمن وذلك في الفترة ما بين 1968 و1979.
الثالث- منذ عام 1979 تم تشكيل العديد من الجماعات الاستيطانية اليهودية بالقدس، والتي ألفت بينها اتحاداً سمي "عطرا اليوشنا" أي جمعية تجديد الاستيطان في مدينة القدس جميعها، ويهدف هذا الاتحاد إلى استملاك العقارات في الأحياء الإسلامية المجاورة للحرم في قلب المناطق الفلسطينية، وذلك بتوطين أسر يهودية مختارة في وحدات سكنية يتم إنشاؤها. وقد حظي هذا الاتحاد باعتراف "إدارة أرض إسرائيل" الحكومية عام 1985 وذلك بعد تشكيل لجنة وزارية يهودية عام 1948 برئاسة أفرايم شيلو شرعت ونظمت عمل هذا الاتحاد.(15)
الرابع- احتلال مساكن الفلسطينيين في الأحياء الإسلامية وادعاء ملكيتها من قبل العديد من اليهود، وتوج ذلك بقيام أرييل شارون شخصياً باحتلال أحد المنازل الفلسطينية عام 1987 في الحي الإسلامي المجاور للحرم الشريف.
” يقطن اليوم حوالي 170 ألف يهودي في القدس الشرقية يمثلون 46% من سكانها، مقابل 200 ألف عربي يمثلون 54% من سكانها
”
|
كما اتبعت سلطات الاحتلال الصهيوني وسائل أخرى أبرزها المصادرة بحجة تطوير الخرائط الهيكلية، حيث صادرت بشكل مباشر 33% من مساحة القدس الشرقية، وجمدت 40% أخرى بني فيها 27 مستوطنة يهودية، لتصبح 73% من المدينة تحت السيطرة والسيادة الإسرائيلية الكاملة. كما صادرت 6% لشق طريق يربط المستوطنات، وبذلك يبقى 21% من القدس الشرقية فقط منها 10% يسكنها العرب، و7% غير منظمة ومعرضة للمصادرة، و4% يجري عليها الصراع.(16)
وقامت سلطات الاحتلال بمحاولة إحراق المسجد الأقصى في 21/8/1969، والقيام بحفريات وأنفاق تحت المقدسات، وهدم بعض الآثار ذات الأهمية التاريخية، ناهيك عن مصادرة أراض ومعابد أثرية تاريخية موقوفة، وتحويل بعض المقابر والمعابد الإسلامية والمسيحية إلى معابد أو نوادٍ لليهود.(17)
وكان الحاخام شلومو غورين قد قام مع عشرين من جماعته بأداء صلاة يهودية داخل الحرم القدسي يوم 15/8/1967. وفي 28/1/1976 أصدرت قاضية محكمة صلح إسرائيلية في القدس قراراً يقضي بإباحة الصلاة لليهود في الحرم القدسي الشريف.(18)
وفي ضوء ذلك يمكن ملاحظة أن الاحتلال اليهودي صادر أراضي 28 قرية عربية بعد عدوان 1967، ووسع حدود القدس الغربية مما صادره من أراض فلسطينية أخرى، حتى أصبحت مساحة القدس الشرقية 70 كم2 والقدس الغربية 38 كم2، ويصبح بذلك مجموع مساحة القدس بشقيها 108 كم2. وعقب ضم أراض جديدة لها بعد عدوان 1967 أصبحت المساحة الكلية 125 كم2.(19)
وبدراسة الممارسات اليهودية زمنياً نجد أن سياسات حزبي العمل والليكود تعمل لنفس الأهداف بخصوص البلدة القديمة التي هي مدينة القدس المقدسة، ويعملان مع بقية الأطراف اليهودية لإبقاء القدس موحدة وعاصمة لإسرائيل، ويعمل حزب العمل بالذات بهدوء شديد لتهويد القدس الشرقية ونشر الوجود اليهودي في محيطها.(20)
ويقطن اليوم حوالي 170 ألف يهودي في القدس الشرقية يمثلون 46% من سكانها، مقابل 200 ألف عربي يمثلون 54% من سكانها، فيما يبدو أنه استجابة لتوصيات بن غوريون الذي قال: يجب استقدام اليهودي إلى القدس الشرقية بأي ثمن، وينبغي توطين عشرات الآلاف من اليهود في فترة قصيرة، وإن هذا الاستيطان هو العودة الحقيقية إلى صهيون.
وتبنت هذا التوجه أيضا اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون القدس، إذ دعت إلى أن تكون نسبة اليهود والعرب بالمدينة 76% مقابل 24% على الترتيب.(21) ولذلك فقد نجح اليهود في إجراء التهويد الديمغرافي بنسبة 50% من القدس الشرقية في مقابل تهويد 79% من الأرض، مما يشير إلى أن أي حل يأخذ هذا الواقع بعين الاعتبار إنما يسلم بنتائج المخطط الصهيوني التهويدي في المدينة المقدسة، وينتهك ما أطلق عليه بالشرعية الدولية، ويعتبر خرقاً لقرار الأمم المتحدة 242 لعام 1967.
أسباب الصراع القائم اليوم ودوافعه
إن الصراع القائم اليوم على القدس بين الفلسطينيين والإسرائيليين يمثل حجر الزاوية في إمكانية التوصل إلى أي حل سياسي، فالدولة الفلسطينية تعتبر القدس عاصمتها ومجالها الحيوي حيث يسكن 10% من فلسطينيي الضفة الغربية في القدس الشرقية، وتحظى المدينة بأهمية دينية وتاريخية وثقافية وتجارية، كما تمثل المدينة المقدسة فيها ورقة مهمة لرسم دور فلسطيني معتبر على صعيد العالم العربي يسهم في الحصول على مساعدات من الدول العربية، وهو ما يوفر مبررات موضوعية للصراع اليوم.(22)
ومن أبرز الإشكاليات التي يتصارع عليها الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني عبر المفاوضات وغيرها:
- السيادة على القدس الشرقية التي تمثل حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، والتي نص قرار الأمم المتحدة رقم 242 على إعادتها للجانب العربي.
- سهولة الوصول إلى الحرم القدسي الشريف وحق الصلاة فيه، حيث يزعم اليهود أن لهم هذا الحق بوصفه مكان الهيكل، وهم يسيطرون اليوم على حائط البراق الذي يمثل الحائط الجنوبي الغربي لساحة الحرم الشريف بزعم أنه حائط المبكى.
- الإصرار الإسرائيلي على ضم كل المناطق اليهودية والمستوطنات المجاورة في القدس الشرقية إلى السيادة الإسرائيلية، ويشمل ذلك مستوطنات معاليه أدوميم وكفار أدوميم وغفآت زئيف التي تتمتع بوضع استراتيجي بالسيطرة على طريقي القدس/الأردن والقدس/رام الله، إضافة إلى ضم ما يسمى بالحي اليهودي في القدس الشرقية إلى السيادة الإسرائيلية ويمثل هذا الحي 15 - 20% من مساحة البلدة القديمة.
- تعريف القدس من حيث الحدود والمساحة والمكونات، وهي نقطة مختلف عليها بين الجانبين.
- الإصرار الإسرائيلي على الاعتراف الفلسطيني الكامل بعاصمة إسرائيل التي يطلق عليها يورشليم أو القدس، والتي تضم القدس الغربية إضافة إلى المناطق اليهودية في القدس الشرقية.
ثانياً: القدس في مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية
بعد محاولات مستمرة للتوصل إلى حل سياسي للصراع حول القدس منذ عام 1967 سواء على صعيد المشاريع والقرارات الدولية أو طروحات الجانبين، بقيت القدس مشكلة أساسية أمام أي حل سياسي للصراع العربي الإسرائيلي. وحتى في معاهدة كامب ديفد التي وقعت بين مصر وإسرائيل في عام 1979 كانت القدس مشكلة أساسية عند تناول الموضوع الفلسطيني.
وفي ظل انهيار النظام العربي بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، وعلى أصداء تصاعد الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي اندلعت عام 1987 ضد الاحتلال الإسرائيلي، بادرت الولايات المتحدة الأميركية بفكرة عقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط بهدف تسوية القضية الفلسطينية نهائياً. وقد عقد المؤتمر بالفعل في مدريد عام 1991 بحضور الطرف الفلسطيني. وبعد مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف منبثقة عن المؤتمر توصل الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتفاق سمي "إعلان مبادئ" عام 1993، تبعته عدة اتفاقيات مرحلية عام 1994 و1995 و1996 على مشارف الوصول إلى المفاوضات النهائية حسب ما ورد في إعلان المبادئ المذكور.
وفي مطلع عام 2000 أخذت جهود البدء بالمفاوضات النهائية منحى أكثر جدية، حيث عقدت مفاوضات مستمرة لحوالي أسبوعين في منتجع كامب ديفد في الولايات المتحدة الأميركية سميت مفاوضات كامب ديفد الثانية في أواسط العام، وانتهت بالفشل في 25 يوليو/ تموز من العام نفسه، وكانت القدس كما أعلن رسمياً العقبة الأساسية أمام التوصل لأي اتفاق بين الجانبين.
مؤتمر مدريد للسلام 1991
لم يتم بحث مسألة القدس بشكل جاد في مختلف مراحل التفاوض الثنائي ومتعدد الأطراف المنبثقة عن مؤتمر مدريد لعام 1991. وأصر الجانب الإسرائيلي على موقف محدد بأن القدس الكبرى (الشرقية والغربية) تعتبر عاصمة إسرائيل الموحدة والأبدية، وأن السيادة عليها ستبقى إسرائيلية كاملة مع حفظ حقوق الأديان الأخرى في أداء شعائرها بأماكنها المقدسة، ولذلك سادت التوجهات نحو تأجيل بحث مسألة القدس بوصفها قضية معقدة. وبقبول الجانب العربي والفلسطيني لهذا الأمر الواقع تم تقديم التنازل الأول عن الحق والسيادة المطلقة للفلسطينيين على مدينة القدس بشطريها، وكانت الولايات المتحدة الأميركية قد أشارت في رسالة الضمانات للفلسطينيين أنه سيجري تحديد مكانة القدس النهائية في المفاوضات. ورغم رفض إسرائيل لإشراك ممثلين من شرقي القدس في الوفد الفلسطيني المفاوض في المراحل الأولى، فإنها قبلت في الجولة التاسعة من المفاوضات مشاركة فيصل الحسيني في الوفد الفلسطيني مع أنه من القدس الشرقية.(23)
” بقبول الجانب العربي والفلسطيني تأجيل موضوع القدس في المفاوضات تم تقديم التنازل الأول عن الحق والسيادة المطلقة للفلسطينيين على مدينة القدس بشطريها
”
|
كما تم في مؤتمر مدريد الاتفاق على تأجيل قضايا جوهرية أخرى يتعلق بعضها بالقدس أيضا ومنها المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين والترتيبات الأمنية والحدود(24)، وهو ما أعطى إسرائيل فرصة كافية للتوسع في فرض الأمر الواقع ديمغرافياً واستيطانياً، على الأخص فيما يتعلق بمصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وشق الطرق الالتفافية وفصل القدس عن بقية المناطق الفلسطينية.
اتفاقيات أوسلو 13/9/1993
تم الاتفاق في إعلان المبادئ الإسرائيلي الفلسطيني على تأجيل البت في وضع القدس النهائي، حيث أخرجت القدس من مجال نفوذ مجلس الحكم الذاتي الفلسطيني حسب البند (7) من وثيقة التفاهم الملحقة بالاتفاق والبندين (4 و5) من الاتفاق نفسه. وعلى صعيد سكان القدس الفلسطينيين سمح لهم الاتفاق في البند (1) من الملحق (1) بالمشاركة في العملية الانتخابية الخاصة بالحكم الذاتي الفلسطيني تحت شروط معقدة، مما يشير إلى تشدد إسرائيل في الجانب الجغرافي والسياسي ومرونتها النسبية في موضوع السكان الفلسطينيين.
من جهة أخرى لم ينص الاتفاق المذكور على إبقاء الوضع القائم للمسائل المؤجلة مثل القدس على ما هو عليه، مما سمح لإسرائيل بالاستمرار في إجراءات التهويد المختلفة بين يدي المفاوضات النهائية التي ستشمل الوضع النهائي للقدس.(25)
المفاوضات النهائية
في ظل تداعيات سياسية مختلفة على الصعيدين الفلسطيني والإسرائيلي شهد منتصف شهر تموز/ يوليو من عام 2000 محاولة حاسمة لدفع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى توقيع اتفاق إطار بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 (الضفة والقدس وغزة)، وسربت العديد من نقاط الاتفاق المزعومة من الجانب الإسرائيلي حيث زعم الإسرائيليون أنهم سيقدمون تنازلات "مؤلمة" مع الإشارة إلى أنهم لا يقبلون بأن تكون بأي ثمن.(26)
وأطلق على هذه القمة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك ورئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات وبرعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون قمة كامب ديفد، غير أن الأطراف لم تتمكن من التوصل إلى اتفاق محدد، وأعلن عن فشل القمة رسميا بسبب عدم القدرة على الاتفاق على مسألة وضع القدس والأماكن المقدسة فيها، في حين أعلن الجانب الفلسطيني أنه رفض التنازل عن السيادة الفلسطينية على القدس الشرقية.
” كان دخول شارون إلى الحرم القدسي في 28/9/2000 استفزازاً أشعل انتفاضة عارمة وحرك غضب العالم الإسلامي
”
|
ورغم هذا الفشل دخلت عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية مرحلة حاسمة، لأن القضايا الجوهرية في الصراع -وعلى رأسها القدس- أصبحت محط بحث على طاولة المفاوضات. واستمر الاتجاه الإعلامي بتبادل الاتهامات بالمسؤولية عن فشل المفاوضات بين الجانبين إلى أن قامت السلطات الإسرائيلية باستفزاز المشاعر الدينية الإسلامية لدى الفلسطينيين والعرب عندما دنس أرييل شارون أرض الحرم الشريف يوم 28/9/2000، مما أدى إلى حدوث مجزرة دامية في الحرم القدسي قامت بها قوات الاحتلال في اليوم التالي عقب انتهاء صلاة الجمعة ومن ثم ممارسة شتى أنواع العنف والإرهاب المنظم ضد الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي المحتلة، الأمر الذي أجج غضب الأمة الإسلامية والعربية وفتح تساؤلات أكبر تتعلق بمستقبل إسرائيل في المنطقة وتطالب بعضها بإزالة هذا الكيان من المنطقة.
وعلى أثر ذلك تحركت الدبلوماسية الأميركية والأوروبية والأمم المتحدة وبعض حلفائها في المنطقة بالضغط على الجانب الفلسطيني لوقف الانتفاضة وإعادة التفكير بما طرحه الجانب الإسرائيلي في كامب ديفد الثانية، وأثمرت هذه الجهود عن تسخين الاتصالات الثنائية الفلسطينية الإسرائيلية والتوصل إلى اتفاق على استئناف المفاوضات في واشنطن في 20/12/2000 بعد انهيار الوضع السياسي لرئيس الوزراء إيهود باراك، وازدياد عناصر التهديد لمستقبل عملية السلام التي يطاردها شبح اليمين الإسرائيلي بزعامة أرييل شارون في ظل الانتخابات الإسرائيلية برئاسة الحكومة في شهر شباط/ فبراير 2001.
وبذلك يمكن القول إن القدس -وعلى الأخص الأماكن المقدسة فيها- تشكل جوهر الصراع بمعناها الرمزي والسياسي والقانوني، وجوهر المفاوضات النهائية الفلسطينية الإسرائيلية والتي يصر باراك على أنها يجب أن تفضي إلى "تعزيز قوة إسرائيل وتدعيم القدس الكبرى (الشرقية والغربية) بأكثرية يهودية راسخة للأجيال المقبلة".(27)
وهو ما يشير إلى المفهوم الحقيقي لما يسميه تنازلات "مؤلمة" واتفاقات متوازنة، وأضاف "أنه ينبغي لنا أن نفكر في ضم مدن استيطانية في الضفة إلى القدس مثل معاليه أدوميم وغفآت زئيف وغوش عتصيون(28) التي تقع جميعها خارج حدود القدس الحالية وعلى بعد عشرة كيلومترات منها أحيانا، وهو ما يلزم تنازلات فلسطينية جديدة فيما يتعلق بالطرق الاستيطانية التي تجتاح مناطق الضفة الغربية وغزة المختلفة.
وخلاصة القول إنه في ظل موازين القوى القائمة وبرغم تصاعد انتفاضة الأقصى الفلسطينية ضد الاحتلال، فإن المفاوضات النهائية لا تزال تخضع لأسس مصلحة الأمن الإسرائيلي وتصوراته للسلام ولاستعداده المحدود لإعطاء الفلسطينيين بعض الحقوق الدينية والسياسية والديمغرافية فيما يتعلق بمدينة القدس.
ثالثاً: المواقف العربية والإسرائيلية والدولية الأساسية تجاه قضية القدس
تجمع المواقف العربية والدولية الأساسية بأن القدس الشرقية هي أراض فلسطينية محتلة وأن على إسرائيل أن تنسحب منها، وأن إجراءات إسرائيل المختلفة فيها باطلة بعشرات القرارات التي تم اتخاذها من قبل الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى والقمم العربية، بل إن إعلان إسرائيل القدس الغربية عاصمة لها منذ عام 1948 لم يحظ باعتراف أي دولة في العالم حتى اليوم، حيث إن مسألة القدس ومكانتها القانونية لم تحسم منذ اتخاذ قرار الأمم المتحدة رقم 181 لعام 1947 المتعلق بتدويل القدس رغم توقيع إعلان مبادئ عام 1993 الذي فتح الطريق أمام القبول الدولي بالأمر الواقع عام 1948 وفي القدس الشرقية عام 1967، خاصة عندما أشار إلى أن أساس الحل هو القرار 242.(29)
الإشكالية في اتفاق أوسلو
ولذلك فتح اتفاق أوسلو مجالا لاتخاذ مواقف غير حاسمة عربيا ودوليا تجاه الحق العربي في القدس، فوقع الأردن معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1994 حيث نصت المادة رقم (9) بند (2) منها على أن إسرائيل تحترم دور الأردن في الأماكن الإسلامية المقدسة وستولي لدوره أولوية كبرى(30)، مما خرق مفهوم السيادة العربية الفلسطينية الكاملة على القدس سياسيا كما هي دينيا.
” تتعامل إسرائيل على أساس الشرعية الكاملة لمصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والتحكم الكامل في المصالح الدينية والسياسية لسكان القدس والشعب الفلسطيني بشكل عام
”
|
وعلى صعيد آخر اتخذ الفاتيكان موقفا دينيا أضعف كالموقف السياسي للفلسطينيين بتوقيعه اتفاقا مع إسرائيل في 30/12/1993 للاعتراف المتبادل وإشارته فقط إلى تسهيل حجّ المسيحيين إلى الأماكن المقدسة المسيحية، أي أن جزءأً من الموقف العربي وجزءاً آخر من الموقف الدولي، ناهيك عن تطور الموقف الفلسطيني، قد سببت جميعها تآكل مفهوم الحق العربي الفلسطيني السياسي السيادي على مدينة القدس بشقيها لصالح الأمر الواقع الإسرائيلي فيها منذ عام 1948, وهو ما يشير إلى إمكانية قبول الأطراف الدولية وبعض الأطراف العربية لمواقف فلسطينية تمثل الحلول الوسط بين الحق الفلسطيني الشرعي وبين الأمر الواقع الإسرائيلي فيما يتعلق بالقدس الشرقية والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية، مما يمثل قاعدة خط للانطلاق في مفاوضات الحل النهائي من موقف متراجع ابتداءً وبدعم غير كامل ولا متماسك دوليا وإلى حد ما عربياً.
أسس الموقف العربي
وبذلك يمكن تحديد أسس ومكونات الموقف العربي الدولي بما يلي:
- أن القدس الغربية (المحتلة عام 1948) أصبحت جزءًا من الدولة الإسرائيلية.
- أن القدس الشرقية بما فيها البلدة القديمة المقدسة والأماكن المقدسة المسيحية والإسلامية تعتبر أراضي محتلة بالقوة من قبل إسرائيل ويجب الانسحاب الكامل منها وفق قرار 242 عام 1967.
- أن الإجراءات الإسرائيلية بالمصادرة والهدم والاستيطان وخلافه في القدس الشرقية (وفق حدود 4 يونيو/ حزيران 1967) تعد باطلة وغير قانونية.
الموقف الإسرائيلي
وعلى صعيد الموقف الإسرائيلي -وهو الطرف المعتدي والمحتل في القدس بشقيها- فإنه يتعامل بشرعية كاملة لمصادرة الأراضي وبناء المستوطنات والتحكم الكامل في المصالح الدينية والسياسية لسكان القدس والشعب الفلسطيني بشكل عام، حيث تجمع القوى السياسية الإسرائيلية على الحق اليهودي المقدس في القدس بصفتها عاصمة إسرائيل والشعب اليهودي، والذي تكرس بالقانون الذي سنه الكنيست عام 1980 باعتبار القدس موحدة عاصمة أبدية لإسرائيل، الأمر الذي يعيق أي محاولة لإعادة تقسيم المدينة وفق أي اتفاق يتم توقيعه إلا بموافقة الكنيست على تعديل القانون أو إلغائه، وبذلك يمكن تحديد أسس ومكونات الموقف الإسرائيلي بما يلي:
- عدم العودة إلى تجزئة المدينة كما كانت قبل عدوان 1967.
- تكريس السيادة الإسرائيلية على القدس الكبرى بأغلبية سكانية يهودية.
- ضم كل المستوطنات اليهودية المحيطة بالقدس إلى بلديتها.
- إمكانية تقاسم السيادة الوظيفية على الحرم القدسي والأماكن المقدسة الأخرى بين الأديان.
- القبول بالسيادة الرمزية الفلسطينية على السكان العرب، مع إعطاء الأحياء العربية في القدس الشرقية نوعا من الإدارة الذاتية لشؤونهم.
- استمرار السيطرة الأمنية العليا لإسرائيل على كافة أجزاء المدينة الموسعة.(31)
رابعاً: السيناريوهات المحتملة لحل مشكلة القدس
تزخر الأدبيات السياسية الإسرائيلية على وجه التحديد والعربية والدولية بشكل عام بمشاريع متعددة تناولت المكونات الأساسية لمشكلة القدس، وحاولت أن تقدم حلاً سياسيا وسطا يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التي أجرتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على المدينة المقدسة ومحيطها، وذلك منذ الاحتلال الإسرائيلي للشطر الغربي عام 1948 والشرقي عام 1967. وقد استندت المشاريع الإسرائيلية بشكل عام إلى الأفكار الأولية التي اقترحها كل من ميرون بنفنستي وتيدي كوليك ومركز القدس لدراسات إسرائيل، ومؤخراً يوسي بيلين ونداف شرغائي. وتستند مجمل هذه المشاريع إلى وصايا هرتزل وبن غوريون بالمحافظة على القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.
أهم المشاريع والمقترحات المطروحة
1- مشروع ميرون بنفنستي (1968 - 1972): وهو يعتمد على الحل الوظائفي ويدعو إلى سيادة ثنائية وسلطة محلية أحادية في الأحياء يحكمها مجلس بلدي مشترك. كما يرى تقسيم القدس إلى بلديتين: الأولى يهودية وتشمل الشطر الغربي مع البلدة القديمة المقدسة وتسمى بلدية أورشليم، والثانية عربية فلسطينية تشمل القرى الفلسطينية الواقعة خارج حدود البلدية الأولى وتسمى بلدية القدس.
ويتفق تيدي كوليك رئيس بلدية القدس لعقدين من الزمن مع فلسفة بنفنستي، ويركز على إدارات الأحياء الموسعة المنتخبة، فيما عرف بمبدأ الفسيفساء.
2- مشروع شمعون شامير: ويتميز بطرحه للإدارة الدينية للأماكن المقدسة واعتماد القدس موحدة مفتوحة للجميع، ولا يرى مانعاً من قيام مؤسسات سياسية فلسطينية في الشطر الشرقي من المدينة، مع تأكيده على فكرة الحكم الذاتي للأحياء وكذلك البلدية العليا للمدينة.
3- مركز القدس لدراسات إسرائيل: ويقوم مشروعه على محاولة إنشاء عاصمة بديلة للفلسطينيين حيث تبقى السيادة الإسرائيلية على القدس الكبرى، في حين يرى إعطاء سيادة خاصة للبلدة القديمة، وحكم ذاتي للأحياء العربية، أما بخصوص الحرم الشريف فيوافق على إدارته فلسطينياً على أن يكون الأمن فيه مشتركاً.
ويقترح لذلك باختصار إنشاء قدسين إحداهما تضم الأحياء والقرى العربية، والأخرى تضم المدن والمستوطنات اليهودية في القدس الشرقية، فيما يعوض الفلسطينيون عن أملاكهم في القدس الغربية، وتسلم القرى والأحياء الفلسطينية من حدود بلدية القدس للفلسطينيين، وتضم الأحياء اليهودية الكبرى لإسرائيل مع نشر الجيش الإسرائيلي بين هذه القرى الفلسطينية ومدينة القدس.
ويقترح هذا المركز ثلاثة بدائل لتطبيق هذه النظرية تقوم على قاعدة تبادل الأراضي وأن تكون نسبة الفلسطينيين إلى اليهود 17 إلى 83% على الترتيب.
4- وثيقة بيلين/أبو مازن: وأشارت في المادة (26) منها إلى موضوع القدس، حيث يقول يوسي بيلين إنه تم في الوثيقة قبول ضم المستوطنات اليهودية الكبرى إلى السيادة الإسرائيلية، وكذلك الاعتراف الفلسطيني بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل. وتكون المدينة موحدة بشطرين: غربي معترف به لإسرائيل وشرقي تحت السيادة الإسرائيلية لتكون بذلك مفتوحة موسعة غير مقسمة. ويدير المدينة مجلس بلدي أعلى مع بلديتين فرعيتين، وتعطى سيادة فلسطينية خاصة على الحرم من خلال إدارة الأوقاف، ويعترف بشرقي القدس عاصمة لفلسطين بوضعها الحالي. وقد اعتمد يوسي بيلين في هذه الأفكار على مشروع مركز دراسات القدس لإسرائيل السابق.
5- مشروع رعنان ويتز: يدعو المشروع الذي قدمه صاحبه للسلطة الفلسطينية إلى إقامة قدس فلسطينية شرقي قرية شعفاط تستوعب 300 ألف مواطن فلسطيني وإنشاء طريق يربط بينها وبين القدس الحالية يديره الجانبان، كما يدعو إلى ضم المستوطنات اليهودية الكبرى إلى القدس الحالية. أما بخصوص المدينة المقدسة داخل الأسوار فيقترح أن تدار دولياً، كما يقترح تخيير العرب المقيمين في القدس الحالية -الكبرى حسب المفهوم الإسرائيلي- بين أن ينتقلوا إلى القدس الفلسطينية الجديدة أو أن يبقوا في أماكن سكناهم الحالية.
” يلاحظ من خلال دراسة سيناريوهات القدس المستقبلية أن الجانب الإسرائيلي هو الذي يتقدم بها عادة إلى الجانب العربي الذي لم يستجب لها منه سوى القليل من السياسيين، ومن أهمهم عدنان أبو عودة المستشار السياسي للملك الحسين سابقاً
”
|
ملاحظات حول المشاريع
ويلاحظ من خلال دراسة هذه المشاريع أن الجانب الإسرائيلي هو الذي يتقدم بها عادة إلى الجانب العربي الذي لم يستجب لها منه سوى القليل من السياسيين، ومن أهمهم عدنان أبو عودة المستشار السياسي للملك الحسين سابقاً عندما طرح "القدس عاصمة لدولتين" عام 1992، كما أشيع عن موافقة محمود عباس (أبو مازن) عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على مقترحات يوسي بيلين السابقة فيما عرف بوثيقة بيلين/أبومازن الشهيرة. ويرجع هذا التحفظ العربي العام إلى أن الموقف العربي والفلسطيني بشكله العام متمسك بالانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 وفق قرار الأمم المتحدة رقم 242 لعام 1967، وهو ما تحاول كل المشاريع الإسرائيلية تجاوزه والالتفاف عليه.
السيناريوهات المحتملة في ظل المفاوضات بين الأطراف
تقوم السيناريوهات المختلفة بشكلها الكلي أو الجزئي على تناول عدة أشكال من الحلول في بنية واحدة، ويشمل ذلك الحل الديني المتعلق بالأماكن المقدسة وكيفية الوصول إليها وإدارتها وأمنها، والحل الوظائفي القائم على أساس تقسيم الشطر الشرقي وفقاً لأوضاعها السكانية الإثنية (أحياء وبلديات فرعية وبلدية عليا)، والحل الجغرافي السياسي المتعلق بمفهوم السيادة وعاصمة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، ومفهوم الأمن وتبعية السكان والأرض والحدود. ولذلك رفعت شعارات من مثل "عاصمتان في مدينة موحدة" أو "عاصمة لدولتين" وما شابهها. وفي حال استمرار موازين القوى القائمة الحالية وقواعد عملية السلام الجارية فإن السيناريوهات تتخذ أحد الأشكال التالية:
الشكل الأول
- القدس عاصمة إسرائيل في غرب المدينة، وعاصمة فلسطين خارج حدود البلدية الحالية وبمحاذاتها.
- تتمتع البلدة القديمة بسيطرة مشتركة ويتبع سكانها لدولة فلسطين.
- يمكن أن يستبدل اليهود القيمون في الحي الإسلامي بالبلدة القديمة بفلسطينيين عائدين من المنفى.
- تتمتع الأحياء العربية منها واليهودية باستقلال ذاتي مع وجود مجلس بلدي أعلى مشترك.
- يدير الفلسطينيون الحرم القدسي الشريف وتدير الفاتيكان الأماكن المسيحية المقدسة، ويشرف على الأمن فيها شرطة مشتركة فلسطينية وإسرائيلية.
الشكل الثاني - تخضع الأماكن المقدسة لإدارة دينية من ممثلي الديانات الثلاثة بأمن فلسطيني إسرائيلي مشترك وسيادة رمزية فلسطينية بالعلم الفلسطيني.
- القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية مع إدارات أحياء ذاتية، وتقسم المدينة إلى بلديتين فرعيتين ومجلس بلدي أعلى.
- تنشأ مدينة جديدة فلسطينية على أجزاء من القدس الكبرى خارج حدود البلدية الحالية.
- ينشأ مجلس تنسيق مع اتصال جغرافي بين المدينتين.
الشكل الثالث
- تتخلى إسرائيل عن مناطق ذات كثافة عربية خارج الأسوار مقابل ضم مستوطنات يهودية من خارج الأسوار إلى إسرائيل.
- يشترك الفلسطينيون في السيادة على القدس القديمة (داخل الأسوار) مع إسرائيل.
- تبنى عاصمة فلسطينية على أجزاء من القدس بمحاذاة الحدود البلدية الحالية للمدينة.
- تعتبر المدينة الحالية عاصمة لإسرائيل، مع تدويل الأماكن المقدسة بصفة دبلوماسية تتجدد كل 25 عاماً.
- تقسم المدينة ويدير كل حي شؤونه الخاصة.
محددات الاتفاق المحتمل على أي سيناريو للحل
1- تحديد مفهوم القدس وحدودها بشطريها، وهي إشكالية صنعتها إسرائيل.
2- إشكالية التداخل في شبكات المياه وشبكات الكهرباء والمجاري الصحية في حال إعادة تقسيم المدينة.
3- التشابك السكاني من خلال الاستيطان اليهودي داخل البلدة القديمة وفي محيط القرى العربية في الضواحي، وكذلك الوجود اليهودي المتناثر في قلب الحي الإسلامي المجاورللحرم القدسي الشريف.
4- إشكالية التنازل الفلسطيني عن السيادة على القدس الشرقية حسب حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 وانعكاساته على شرعية القيادة الفلسطينية.
5- الإصرار الإسرائيلي على وحدة المدينة تحت السيادة الإسرائيلية بما في ذلك الأماكن المقدسة في البلدة القديمة.
6- التدخل المسيحي الكنسي فيما يتعلق بالأماكن المسيحية المقدسة وعدم اهتمامه باستعادة السيادة العربية حتى على القدس الشرقية.
7- فرض الأمر الواقع اليهودي على المدينة من حيث أحزمة الاستيطان والسيطرة على حائط البراق وهدم الحارات والبيوت ومصادرة الأراضي.
8- استناد التفكير والحلول الإسرائيلية إلى حل مشكلة السكان الفلسطينيين والأماكن المقدسة فقط.
ملاحظات كلية
ويلحظ من مجمل هذه المحددات أنها تضع مسألة القدس ومستقبلها في يد الطرف الصهيوني المحتل، لكنها في الوقت نفسه تهدد المشروع الوطني الفلسطيني في حال استجابته للأمر الواقع الإسرائيلي. ولذلك فإن من المتوقع التوصل إلى حلول تحقق السيادة والانتصار الديني للجانب اليهودي في مقابل خسارة الأرض وانتقاص السيادة والحق الديني للمسلمين والمسيحيين، مما يؤكد عدم صلاحية قواعد التفاوض الحالية لرسم مستقبل المدينة.
ويؤكد المشروع الأميركي (24/12/2000) الذي يمثل ورقة أولية لاتفاق الطرفين على إطار الحل النهائي، صحة الاستنتاج الذي وصلنا إليه بخصوص التشويهات والتنازلات الكثيرة التي تفرض على الجانب الفلسطيني في ظل مقايضات غير عادلة وغير متوازنة.
” تمثل القدس بأبعادها الدينية والسياسية والتاريخية جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، وما يطرح من مشاريع إسرائيلية عبر التفاوض إنما يعمل على تكريس الأمر الواقع الصهيوني وينتقص الحق العربي الإسلامي فيها
”
|
الخلاصة
إن قضية القدس بأبعادها الدينية والسياسية والتاريخية تمثل جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، وما يطرح من مشاريع إسرائيلية عبر التفاوض إنما يعمل على تكريس الأمر الواقع الصهيوني وينتقص الحق العربي الإسلامي فيها، غير أن التقدم الذي أبداه الطرف الفلسطيني بشكل عام وبعض الأطراف العربية نحو التعامل مع هذه الطروحات تسبب في جراح حقيقية للموقف العربي والإسلامي، مما جرأ الطرف الصهيوني على تزايد تمسكه بأهدافه ومحددات مواقفه الثابتة، مع المناورة في بعض التفاصيل بل والإغراق فيها.
ويبدو أن أي عملية تفاوضية تتم خارج نطاق الضغط العملي على الاحتلال عبر الانتفاضة والمقاومة الفاعلة لن تتمكن من استرجاع حتى الفتات من الحق العربي السياسي السيادي والديني والإنساني في مدينة القدس. وستبقى قضية القدس أساس الصراع على مدى الأجيال القادمة.
|